حققت القوى السياسية اللبنانية نجاحات مميّزة خلال الأشهر الأخيرة، كان أبرزها إجراء الانتخابات الرئاسية وانتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة العهد الأولى برئاسة سعد الحريري، التي شكلت غطاءً لمرحلة التعطيل التي امتدت قرابة ثلاث سنوات. لكن مرحلة النجاح انتهت بالوقوف جامدة أمام الانتخابات النيابية التي كان مفروضاً بها أن تجري منذ أربع سنوات، بذريعة واهية، هي أن المجلس النيابي (الممدّدة ولايته) لم يستطع التفاهم على قانون جديد للانتخابات وضد الفراغ. وتبعاً لذلك فقد أعلن الجميع (رئيساً وحكومة وكتلاً نيابية) أنهم ضد اجراء الانتخابات بموجب قانون الستين، وأنهم ضد التمديد للمجلس، وبالتالي فإن الخيار المتاح هو الوصول إلى تفاهم وطني حول قانون جديد للانتخابات.. وهذا يستدعي اجازته في الساحة السياسية أولاً، ثم في اللجان النيابية، مروراً بمجلس الوزراء، وصولاً إلى الهيئة العامة للمجلس النيابي. وهذا المسار الطويل لم يتحقق، ويكاد يكون مستحيلاً انجازه خلال هذا العام.
ما هو البديل إذن؟! يتناوب الرؤساء الثلاثة: عون وبري والحريري ضخ بعض الأمل في الساحة السياسية، لكنهم يسارعون الى استرجاعها بعد يوم أو يومين، ليعود البلد الى حالة الفراغ والتعطيل والدوران في الحلقة المفرغة من جديد.
يتساءل كثيرون عن سبب هذا الجمود، هل هو قصور في الأداء السياسي أم هو ايغال في ديمقراطية لم يعرف التاريخ الحديث لها مثيلاً. إذ إن المتعارف عليه أن الديمقراطية هي حكم الأغلبية، سواء كانت نيابية أو شعبية، أما في لبنان فإن الشرط الأساسي لأي أغلبية هو أن تضمن مصالح زعامات الطوائف الكبرى، اضافة الى المذاهب المتفرعة عنها، فضلاً عن المناطق والمحافظات. والمعروف بالضرورة أن العملية الانتخابية تجري مرة كل أربع أو خمس سنوات، بموجب القانون المعمول به إذا لم يتم تعديله. ولعل الحالة اللبنانية هي الفريدة في العالم التي ترفض فيها الكتل النيابية قانون الانتخابات الذي أتى بها الى المجلس النيابي والى الحكومة القائمة، بحجة أنه قانون متخلف وغير عادل وغير عصري.. مع أن مجلسهم النيابي الحالي هو الذي يمكنه اجازة أي قانون جديد، وهو مجلس مطعون في شرعيته بعد أن مدّد لنفسه مرّتين.
لقد بات اللبنانيون أمام خيارات متعدّدة ومتراكمة، ولا يكاد الرأي العام يدرك دلالاتها وأشكالها. فالنظام النسبي له دلالات كثيرة، خاصة أن المطلوب اعتماده ضمن نظام طائفي ومذهبي، فكيف نوفق بين النسبي والطائفي؟ وهل يجري اعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، أم أن التقسيم سوف يجري حسب توزع المحافظات أم الأقضية؟ وماذا عن التأهيلي الذي تطرقه بعض القوى المسيحية، وكيف يمكن أن يتكامل مع النسبية وإلغاء الطائفية السياسية التي نص عليها اتفاق (أو دستور) الطائف!! يقول البعض ان الخيار الدستوري الوحيد الذي يمكن اعتماده، سواء الآن أو خلال الأشهر المتبقية من العام الحالي، هو الذي جرت بموجبه انتخابات عام 2009 وما قبلها، لأن عملية تسويق أي قانون جديد تحتاج إلى ستة أشهر على الأقل بعد اجازته في المجلس النيابي، وهذا ما يمكن أن يمتد ليس الى أواخر العام الحالي، ولكن الى العام القادم كذلك.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا، هو: من صاحب المصلحة في التمديد والتعطيل والمراوحة في الفراغ؟ كان البعض يوجه أصابع الاتهام الى حزب الله وحليفته حركة أمل، نظراً لانشغالهما بالحرب الدائرة في سوريا. لكن الأمور تجاوزت هذه الخيارات، وباتت في لبنان قوى سياسية أخرى ليست ضالعة أو مشاركة في الملف السوري. فالتطرف والغلو باتا من أهم المعطلات، ليس في الساحة اللبنانية وحدها وانما على مستوى العالم.. بدءاً بحصيلة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي حملت دونالد ترامب الى البيت الأبيض، وصولاً إلى تقدم أسهم المرشحة الفرنسية الخاسرة مارين لوبان. وإذا كانت رئيسة «الجبهة الوطنية» قد نجحت في تجاوز عدد كبير من الأحزاب الفرنسية اليمينية واليسارية وتحقيق نجاح مميّز في الانتخابات الرئاسية، فإن الانتخابات النيابية القادمة، المقرر اجراؤها في فرنسا بعد ثلاثة أسابيع، قد تحمل حقائق صادمة جديدة في الساحة الفرنسية، وهنا يقع التصادم بين التيار المعتدل الذي دفع بالرئيس ماكرون الى سدة الرئاسة، وبين التيارات الأخرى التي عبّرت عن حجمها، سواء بالتصويت لصالح أحد المرشحين لموقع الرئاسة، أو بالامتناع عن التصويت في هذه الدورة بما يقارب ثلث حجم الناخبين الفرنسيين.
أما عندنا في لبنان، فإن الامتناع عن التصويت في أي انتخابات قادمة، سواء بالنسبية أو غيرها، فقد يكون الامتناع عن التصويت سيّد الساحة، وقد حملت الانتخابات البلدية والاختيارية الأخيرة دلالات توحي بأن الناخب اللبناني لم يعد أسير «الزعيم»، سواء كان زعيم الطائفة أو الحزب أو المنطقة. وعندها سوف تنكشف كل الخيارات التي تعمل القوى السياسية اللبنانية على تحقيقها عبر ترجيح كفة قانون الانتخاب، باتجاه النسبي أو الأكثري أو الأرثوذكسي. وهنا سوف يكون لبنان أمام استحقاق جديد، هو انقلاب الموازين التي تدفع القوى السياسية باتجاه قانون الانتخابات الملائم لمصالحها.
وإذا وقع مثل هذا الخيار وتحوّل ولاء اللبنانيين من الولاء الطائفي والحزبي والزعامي الى الولاء الفكري والسياسي، عندها سوف يكون البلد أمام خيارات جديدة، وربما مؤتمر تأسيسي يعيد فرز الأوراق وتوزيع الحصص والمواقع، في كل مؤسسات الدولة وأجهزتها، وليس في المجلس النيابي وحده. أما الآن، فإن أمام اللبنانيين خيار وحيد بإمكانهم اعتماده واجراء الانتخابات النيابية بموجبه في المستقبل المنظور، هو القانون المعمول به دستورياً، سواء حمل اسم قانون الستين، أو غازي كنعان أو غير ذلك من التسميات، وبعد ذلك لكل حادث حديث.