لعلها المرة الأولى في التاريخ يكون المسلمون فيها محرجين في الدفاع عن أنفسهم ومسارهم الفكري والسياسي. ففي الحروب الصليبية أواخر القرن الحادي عشر كان العرب والمسلمون يدافعون عن بلادهم وعقيدتهم ومسجدهم الأقصى، في وجه الحملات التي شنتها الممالك والامارات الأوروبية فيما أطلق عليه حروب الفرنجة. وعلى الرغم من استمرار هذه الحملات عشرات السنين ووقوع المسجد الأقصى تحت الاحتلال، فقد تحرّرت كل هذه الأقطار ورجع الفرنجة إلى بلادهم خاسرين.
وبعد الحرب العالمية الأولى وتوقيع اتفاقية سايكس-بيكو، ووقوع معظم أقطار العالمين العربي والإسلامي تحت ربقة الاستعمار الغربي، الفرنسي والبريطاني، فقد قامت ثورات شعبية ضد قوات الاحتلال، التي حملت سلاحها وعادت الى بلادها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة.
لكن الاستعمار الغربي لم يصبر على العالم العربي طويلاً، خاصة أن جمهوريات وأنظمة ديمقراطية قامت في هذه الأقطار، فسارع الى اقامة أنظمة عسكرية استبدادية، بدءاً من سوريا (حتى اليوم) مروراً بمصر والعراق وغيرها من الأقطار. وهنا بدأت مواجهات جديدة لجماهير الشعب العربي مع هذه الأنظمة.. إلى ان انطلقت ثورات ما سمي «الربيع العربي» بدءاً بتونس، فمصر وليبيا وسوريا وغيرها... فانتصر بعضها وتحوّل ربيع بعضها الآخر الى خريف طويل الأمد.
لم يكن في هذه الثورات والمواجهات، القديمة والحديثة، ما يشعر الإنسان العربي والمسلم بالحرج.. الى أن بدأت موجات التطرف، التي قامت على شعارات إسلامية، بدأت بما سمي «تنظيم الدولة الإسلامية» و«النصرة» وغيرها كثير من المنظمات المتطرفة التي عشعشت في سوريا والعراق، ثم انتقلت الى ليبيا ومصر واليمن وشمال افريقيا، ومنها الى مختلف الأقطار الأوروبية، من فرنسا الى بريطانيا وتركيا ومصر وروسيا، فبات الإرهاب هو القضية المركزية التي تعنى وتهتم بها هذه الأقطار.. وهذا ما جعل الإنسان المسلم الذي يعيش في هذه الأقطار يتوارى بدينه، ليس لأن سلطات هذه الأقطار تمارس قمعاً ضد الجاليات الإسلامية، بل لأن الممارسات الاجرامية المتطرفة التي تمارسها داعش و«القاعدة» وأخواتها تحرج المسلمين وتضعهم في موقع الاتهام بالإرهاب والاجرام، دون أن يستطيعوا الدفاع عن أنفسهم وعن دينهم.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا انطلقت هذه التنظيمات والخلايا في هذا الوقت بالذات، بعد تعثر - أو فشل - معظم التجارب الإسلامية في إقامة أنظمة مستقرة وعادلة، وأين كانت هذه الخلايا قبل الثورة السورية، وإسقاط نظام القذافي في ليبيا، والاحتلال الأمريكي للعراق، وايداع الرئيس محمد مرسي وعشرات الألوف من اخوانه غياهب السجون في مصر؟!
الجواب البديهي على هذه الأسئلة هو أن اخماد الانتفاضات وقمع ثوراتها تسبب بردود فعل حادة، قادت الى بروز تشكيلات وأفكار متطرفة. لكن لماذا في سوريا والعراق بالدرجة الأولى؟ لقد نشأ تنظيم القاعدة في أفغانستان أواخر تسعينات القرن العشرين، ويكاد يكون قد طويت صفحته لأنه فشل في اقامة دولة أو نظام.. بينما يسيطر «تنظيم الدولة» على معظم الأراضي السورية، وقطاعات واسعة من الأراضي العراقية. وهنا يطرح السؤال نفسه: ماذا عن عمليات الافراج عن مجموعات كبيرة من المعتقلين العراقيين المعروفين بتطرفهم من سجون الموصل والرمادي وغيرهما، وهم من بقايا نظام صدام حسين الذي جرى تصفيته عسكرياً قبل سنوات. وماذا عن عمليات الافراج عن معتقلي سجون المزة العسكري وصيدنايا وحلب المركزي، ليذهبوا الى الرقة وادلب ودير الزور، فيلتقوا باخوانهم القادمين من العراق، الذين أعلنوا خلافة من نوع جديد، وليمارسوا إرهاباً على مستوى عالمي، بعد أن توفرت لهم مصادر تمويل نفطية لتغطية موازناتهم.
هذه المقدمات في ساحاتنا العربية والإسلامية تقابلها ردود فعل أشد وأقسى في الدوائر الغربية، في بريطانيا حيث جرى الاستفتاء على خروجها من الاتحاد الأوروبي بعد أن كانت أحد أهم أركانه، وفي فرنسا حيث حققت المرشحة مارين لوبن (زعيمة الجبهة الوطنية المتطرفة) أرقاماً عالية في المرحلة الأولى من التصويت التي جرت يوم الأحد الماضي، في مقابل مرشحي الأحزاب الفرنسية اليسارية والاشتراكية والمعتدلة. وعلى الرغم من محاولتها الابتعاد عن أفكار «الجبهة الوطنية» وعن الطرح السياسي الذي كانت تمارسه في حملتها الانتخابية، إلا ان انتقال كل من ايمانويل ماكرون ومارين لوبن الى المرحلة الثانية من الانتخابات يدل على أن الشعب الفرنسي يعيش ظروفاً غير عادية، خاصة بعد الأحداث الإرهابية وآخرها الذي وقع في ساحة الشانزيليزيه في باريس، ولو استطاع جهاز مخابرات تفجير عبوة أو اطلاق رصاص في محطة مترو في باريس أو ليون أو غيرهما، لشد ذلك من أزر المرشحة اليمينية المتطرفة في المرحلة الثانية من الانتخابات.
أما في الولايات المتحدة الأميركية فما حملته نتائج الانتخابات الرئاسية كان أكثر ايلاماً للعرب والمسلمين، والأمريكيين والعالم أجمع. وبالعودة قليلاً لتقليب صفحات الحملة الانتخابية والتصريحات العنصرية التي كان يطلقها ترامب، لا سيما المتعلق منها بالكيان الصهيوني ونقل السفارة الأميركية الى مدينة القدس، واسقاط حتى حل الدولتين.. كل ذلك يؤشر الى أن الأوضاع السياسية في العالم، والعالم العربي على وجه الخصوص، سوف تكون مشحونة بمفاجآت كبيرة، كلها تعود الى أن العالم الغربي والعالم أجمع، يدافع عن نفسه في وجه موجات التطرف والإرهاب التي تحمل الطابع الإسلامي.
صحيح أن القوى الإسلامية البارزة والعريقة في العالمين العربي والإسلامي، معروفة باعتدالها ووسطيّتها، وأنها تتعرض لحملات إرهاب وعدوان شأن كل القوى المعادية للنصرة أو لداعش، لكن بعض الأنظمة العربية لها مصلحة بمواجهة كل ما هو إسلامي، بل هي تروّج لأنها تكافح الإرهاب والتطرف، وكل ما هو إسلامي، سواء كان إسلاماً فكرياً أو سياسياً أو تربوياً.. فهل تواجه الحركة الإسلامية هذه الاشكالية التي برزت في ساحتها؟!}