بدأت في لبنان حملة انتخابية واسعة النطاق، كان لبنان يفتقدها منذ تسع سنوات.. رغم أن البلد يعيش حياة ديمقراطية منذ أواسط القرن الماضي، لكن موجات الاهتزاز التي شملت العالم العربي بعد انهيار عدد من الأنظمة الاستبدادية، من تونس الى مصر وسوريا واليمن وليبيا.. وبقي لبنان الذي شهد حروباً أهلية متعددة، بدءاً مما سمي «ثورة 1958» إلى «الحرب الأهلية عامي 1975 و76»، وما سمي «حروب الآخرين على أرضنا»، مروراً بالغزو الإسرائيليي الواسع عام 1982، وصولاً إلى آخر انتخابات نيابية عام 2009، والتمديد المتوالي ثلاث مرات للمجلس النيابي دون مبرر مقنع.. مما حمل المراقبين على اطلاق تسمية «النائب الممدد لنفسه» على أعضاء المجلس النيابي.
واليوم، وبعد توافق القوى السياسية على قانون يعتمد النسبية والصوت التفضيلي لأول مرة، وبعد تقسيم لبنان الى خمس عشرة دائرة انتخابية، يبدو اللبنانيون في شوق الى خوض هذه المغامرة، رغم كل ما يشوبها من مطبات. فهناك من المرشحين وزعماء الكتل النيابية من يقول ان أمامنا عقبات سوف تعترض العملية الانتخابية، لأن الخلط ما بين النظام النسبي والطائفي لن يكون سهلاً، وليس في العالم بلد اعتمد هذين الشرطين في نظامه الانتخابي.. فالنسبية تعتمد اللوائح الحزبية في الدوائر الموسعة، بينما الشرط الطائفي (أو المذهبي)، اضافة الى الصوت التفضيلي، يجعل العملية معقدة، ومعرضة للكثير من الطعن في النتائج، خاصة أن لبنان في كل جولاته الانتخابية كان يوزع العملية الانتخابية على شهر كامل، بما يتيح للسلطة اللبنانية اجراء المراقبة الإدارية والأمنية في كل محافظة لبنانية. أما النظام الانتخابي المعتمد هذه الدورة فقد وحّد العملية الانتخابية لتجري في يوم واحد (الأحد 6 أيار) ما يجعل الإشراف على الانتخابات عملية بالغة الصعوبة.
يضاف الى كل ما سبق جوانب في القانون الجديد لم تحسم بعد، بدءاً باشتراك المغتربين اللبنانيين في العملية الانتخابية، مروراً بخفض سنّ الانتخاب من خمسة وعشرين عاماً الى ثمانية عشر، وضم مشاركة المرأة في الانتخاب والترشيح انطلاقاً من اعتماد الكوتا النسائية (30٪ من عدد النواب)، وصولاً الى إلغاء الطائفية السياسية التي تسيء إلى النظام العام في البلد، وتعقد الحياة السياسية وتجعلها رهينة الطوائف والمذاهب، سواء في الندوة النيابية أو في الحقائب الوزارية أو في تركيبة القوى الأمنية والجيش وكل وظائف الدولة.
لكن، هل يعني ذلك الاستمرار في عمليات التمديد للمجلس النيابي أو التجديد لأعضائه؟! ذلك ما سيكون أسوأ الخيارات وأبعدها عن ان تكون في لبنان حياة ديمقراطية سليمة. فعلى الرغم من أن النظام الانتخابي تشوبه سوءات كثيرة، وأن النظام الطائفي المعتمد في لبنان يجعل الأحزاب والكتل النيابية رهينة تقاسم المقاعد النيابية والحقائب الوزارية.. إلا أن ما يجري حولنا، في سوريا منذ سبع سنوات، وفي مصر وليبيا والعراق ومعظم أقطار الخليج. يحتم على اللبنانيين أن يحتكموا الى الحرية والديمقراطية في حياتهم السياسية، ذلك أن البديل لن يكون سوى نظام استبدادي، سواء كان عسكرياً أو عشائرياً أو فوضوياً. وما ظهر خلال موجات «الربيع العربي» أن الدوائر الغربية التي تنادي بقيام أنظمة ديمقراطية في الشرق الأوسط، كانت موغلة في تفويض الأنظمة الديمقراطية التي أفرزها ذلك الربيع، ليتحوّل الى خريف عربي عاصف وماطر.. لأن القوى الكبرى في العالم تهمها مصالحها أولاً، وبعد ذلك يهمها أن لا يقوم في الشرق الأوسط نظام حرّ وديمقراطي يهدد الكيان الصهيوني، ويعيد الى الشعب الفلسطيني أرضه وقدسه المحررة.
أمام اللبنانيين أشهر تفصلهم عن الانتخابات النيابية، لكن ما يعني الأحزاب والقوى السياسية هو ليس البرامج السياسية ولا التوجهات الفكرية ولا التحالفات السياية، وانما تمويل حملاتها الانتخابية، فهذا المرشح يفتش عن حليف يستطيع تمويل الحملة الانتخابية وتوظيف الأنصار والمرافقين ومديري الحملات والجولات والمواكب والتجمعات في مختلف مناطق الدائرة الانتخابية.. ليس ذلك حرصاً على خبرة هؤلاء الأنصار في الحشد وتنظيم المواكب فقط، وانما الأهم من ذلك ان يستمر هؤلاء حتى يوم الانتخاب الى جانب المرشح، هم وأقرباؤهم وأنسباؤهم، فالصوت التفضيلي له ما يبرره ويسانده، سواء في التصويت أو في الحراك الشعبي والسياسي الذي يسبقه.
لكن كل ذلك لا ينبغي له أن يصرف انتباهنا عن قضية أساسية، هي أن المواطن - أو الناخب - اللبناني عن أن التصويت شهادة، والشهادة لا تكون عادة بدوافع مادية أو علاقات عشائرية أو حزبية، وانما هي كالشهادة أمام المحكمة، حيث يسأله الله عنها، فلماذا منح صوته الانتخابي لهذا المرشح أو ذاك، أو لماذا ساند هذه اللائحة - التي أعلنت برنامجها الانتخابي - ولم يساند تلك. وبالنسبة للصوت التفضيلي لماذا منح صوته لهذا المرشح في اللائحة ولم يمنحه لذاك.. ذلك أن المرشح إذا قدّر له النجاح وبات عضواً في المجلس النيابي فسوف يمثل شعبه ومنطقته، بل سوف يكون ممثلاً لجميع اللبنانيين، سواء في المجلس النيابي أو أمام الرأي العام اللبناني بشكل عام.
إذن، نحن أمام مرحلة بالغة الأهمية، وليست مجرد ملهاة ينشغل فيها الناسب بالزيارات والجولات الانتخابية ومواكب السيارات واطلاق المفرقعات والأسهم النارية. والواجب يقضي أنه يحاول المواطن اللبناني زرع الفكر السليم والتوجه السياسي القويم في البرنامج الانتخابي للمرشح، حتى لو لم يكن عنده انتماء فكري أو سياسي، ذلك أن مصلحته تملي عليه عندئذ أن يلتزم الاستقالة الفكرية والسياسية، وأن يتبنى قضايا الناس وقضايا المنطقة، وبالتالي يكون من حق الناخب أن يسائله عن مدى التزامه بما وعد به خلال الحملة الانتخابية، وهذا ما يعتبر ارتقاء بالحملة الانتخابية، ودور الناخب فيها، مضافاً الى ما يقوم به المرشح خلال الأيام القادمة.. وهذا واجب الإنسان المكلف، سواء كان مرشحاً أو ناخباً.