يشهد لبنان فراغاً سياسياً غير مسبوق. فعناوين ومانشيتات الصحف ونشرات الأخبار وتغريدات وسائل التواصل الاجتماعي.. كلها تدور حول ملفين اثنين، الأول هو قانون الانتخاب، والثاني هو الخلاف الناشئ بين الرئاستين الأولى والثانية حول مشروعية توقيع «مرسوم الأقدمية»، الذي تحوّل من اجراء شكلي حول الاختصاص الى خلاف دستوري وطائفي وميثاقي، واكب زيارة الرئيس بري الى طهران، وجلسات ولقاءات الرئيس عون مع أعضاء السلك الدبلوماسي.. فضلاً عن جلسات مجلس الوزراء وكل الحوارات التي يمارسها الوزراء والنواب عبر المحطات الاذاعية والتلفزيونية.
جاء موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في السادس من كانون الأول الماضي، الذي طالب فيه بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس، واعتبر فيه المدينة المقدسة عاصمة لإسرائيل.. فقامت حركة شعبية وإسلامية في معظم المناطق اللبنانية ضد هذا القرار، مما شد اهتمام الرأي العام اللبناني باتجاه التأكيد على أن مدينة القدس هي عاصمة فلسطين، وطرح الموضوع في مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة للأمم المتحدة، لكن الموضوع أبحر بعيداً عن الساحة اللبنانية، وبات محل اهتمام الفصائل الفلسطينية والجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي والمجلس المركزي الفلسطيني. جاء بعد ذلك يوم الأحد الماضي التفجير الذي استهدف سيارة شاب فلسطيني في مدينة صيدا، أصاب قدمه وأحرق السيارة، لأن الشاب استدار خلفها ولم يدخلها بعد.. لكن الجميع ألقوا بتبعة التفجير على كاهل العدوّ الإسرائيلي. وعاد الفراغ يلف الساحة اللبنانية، أمنياً وسياسياً، دون الدخول في تفاصيل الشأن اللبناني.
نعود الى الانتخابات النيابية، فقد جرى التوافق على اجراء الانتخابات النيابية في السادس من شهر أيار المقبل، وهذا ما طمأن اللبنانيين الى أن الاستحقاق الانتخابي قادم، خاصة أنه قد حسم بعد تحديد موعده. لكن الشيطان يكمن دائماً في التفاصيل، فقد جرى اعتماد القانون النسبي لأول مرة في لبنان، وهذا ما يفتح الباب واسعاً لخلافات سياسية وطائفية ومناطقية، فكيف يمكن الجمع بين النظام النسبي والحفاظ على التوزيع الطائفي، وهل يمكن الجمع بين النسبية ضمن اللوائح الانتخابية، في حين لا يعرف اللبنانيون هذه اللوائح هل هي تقوم على أحزاب لبنانية موثقة لدى وزارة الداخلية اللبنانية، أم هي مجرد توافق بين شخصيات لا تجمعها مبادئ ولا قيم!! والى جوارنا نموذج انتخابي في العراق اشترط أن تكون اللوائح حزبية، وأن تكون الأحزاب موثقة لدى الدوائر المختصة. وبنتيجة البحث والتمحيص فقد جرى اعتماد 143 حزباً عراقياً تخوض الانتخابات، ثم تطور الأمر الى أن هذه الأحزاب شكلت 27 تحالفاً سياسياً، جرى اعتمادها في لجنة الاشراف على الانتخابات التابعة لوزارة الداخلية. أما موعد اجراء الانتخابات فهو محدد في 12 أيار، فهل يكون الالتزام العراقي أدق أم الالتزام اللبناني؟
تأتي بعد ذلك عملية انتخاب المغتربين اللبنانيين، فقد جرى تحديد يوم الأحد 22 نيسان موعداً لاقتراع المغتربين في الدول الغربية والأجنبية، ويوم الجمعة 27 نيسان موعداً لاقتراع المغتربين في الدول العربية.. وهذا ما يستدعي حسم قضية الناخبين من المغتربين، فهناك ما لا يزيد عن تسعين ألف مغترب جري تسجيلهم على لوائح السفارات والقنصليات.. بينما لم يجر حتى الآن اعتماد اللجان المشرفة على أقلام الاقتراع في هذه الدول.
ونعود الى البطاقات الانتخابية، هل يسري خيار اعتماد بطاقة الهوية أو جواز السفر، وماذا لو لم يستطع المغترب اللبناني الحصول البطاقة البيومترية أو الممغنطة.. وماذا عن المغترب الذي استطاع الاستماع الى وزير الخارجية (جبران باسيل) خلال جولاته الانتخابية في مشارق الأرض ومغاربها، من أمريكا الجنوبية في البرازيل والأرجنتين الى الشمالية من الولايات المتحدة الى كندا.. وماذا عن المغتربين في الأقطار الخليجية، وعددهم بات كبيراً، لماذا لم يشملهم وزير الخارجية بجولاته الانتخابية؟! وهل الوزير باسيل كان يقوم بجولات رسمية كوزير للخارجية، أم هي جولات حزبية بصفته رئيساً لحزب سياسي؟! وماذا لو جرى صرف النظر عن ممارسة المغتربين حقهم الانتخابي.. ماذا لو أمكن ذلك في أقطار غربية (وهذا ممكن الى حد كبير)، ولم يكن ممكناً في كردستان أو السعودية والامارات والعراق (وهذا غير ممكن الى حد أكبر) لأسباب أمنية أو سياسية، مما يجعل العملية الانتخابية تأخذ لوناً مذهبياً أو طائفياً بشكل واضح.
يفاخر اللبنانيون بأن بلدهم لبنان هو أكثر بلدان العالم العربي ديمقراطية، لكن الممارسة الديمقراطية خلال السنوات الأخيرة برهنت على أن القضية باتت معكوسة، وعملية تأجيل الانتخابات أو ترحيلها من موعد الى آخر هي ممارسة غير مسبوقة، وتجعل من لبنان بلداً يمكن أن تجري فيه جولات انتخابية، عشائرية وطائفية ومناطقية.. أما النموذج الديمقراطي فهو أبعد ما يكون عن أن يأخذ مكانه اللائق على الساحة اللبنانية. وستكون لهذه المحاذير مبرراتها في شهر أيار القادم، سواء جرت فيه الانتخابات أو جرى ترحيلها كما جرى ذلك أكثر من مرة منذ عام 2013 حتى الآن. عندها يمكن للبنانيين أن يفتشوا عن نموذج آخر، قد يكون كل شيء إلا أن يكون ديمقراطياً.. إلا إذا جرى تنفيس الاحتقان الطائفي والمذهبي، أو جرى إلقاء السلاح لدى أكثر من فريق لبناني، سواء بذريعة الدفاع عن النفس أو المقاومة والممانعة.. نطرح هذه الخيارات ونحن ندرك أن لبنان قد يكون غداً أو بعد غد جزءاً من سوريا المتجهة نحو التفتيت والانقسام، رغم حرص قطاع كبير من اللبنانيين على أن يبقى لبنان «وطناً نهائياً لجميع أبنائه».