يصف بعض الإعلاميين في لبنان الممارسة السياسية بأنها «لعبة السياسة» كتعبير مترجم عن اللغة الفرنسية. لكن الممارسة السياسية خلال السنوات الخمس الماضية كانت «لعبة» بكل ما تحمل الكلمة من معنى ودلالات. فقانون الانتخاب ليس اشكالية طارئة في الحياة السياسية، وانما كان مطروحاً للنقاش سعياً للوصول إلى قانون عادل ومتوازن منذ انعقاد المجلس النيابي الحالي عام 2009، وقد أعلن رئيسه نبيه بري في الجلسة الأولى أن الواجب يقضي بأن تدرس لجنة الإدارة والعدل مشروعاً جديداً للانتخابات، ثم تحيله على الهيئة العامة للمجلس من أجل مناقشته واعتماده، حتى يكون جاهزاً في انتخابات 2013، الموعد المحدد لنهاية ولاية المجلس واجراء انتخابات نيابية أكثر عدالة وأفضل تمثيلاً من قانون 1960، أو ما يسميه البعض قانون غازي كنعان، أو قانون الدوحة.
لكن الأيام والسنين طواها الزمن، وانتهت ولاية رئيس الجمهورية السابق (ميشال سليمان) دون أن تجتمع الهيئة العامة للمجلس وتنتخب رئيساً جديداً للجمهورية، وكان ذلك بسبب مقاطعة كتل نيابية وازنة لجلسات المجلس مما أدخل البلد في فراغ لا مبرّر له، سوى «اللعبة السياسية» التي مارستها كتل نيابية لها مصلحة في الشغور الرئاسي، أو تلك الطامحة الى أن تكون هي المتربعة في قصر بعبدا.
بعدها انتهت ولاية المجلس النيابي فمدّد لنفسه مرة وثانية، وما يزال يعيش بفعل هذا التمديد، الى أن أطلق الرئيس سعد الحريري مبادرته الأولى التي قضت بدعم ترشيح النائب سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، ثم مبادرته الثانية التي أوصلت الجنرال ميشال عون الى قصر بعبدا.. فأجرى مشاورات نيابية تشكلت الحكومة على أساسها بعد مساومات ومقايضات غير مسبوقة. وحسب المراقبون أن «اللعبة السياسية» انتهت، وان الاستقرار السياسي بات ثابت الأركان. لكن تبيّن أن اللعبة لم تنته بعد، وأن مسار التعطيل ما زال سارياً.. فالمجلس النيابي أمامه استحقاق بالغ الأهمية هو إجراء انتخابات نيابية بموجب قانون جديد للانتخابات ينهي قانون الستين ويوصل البلد الى قانون عصري وعادل قبل انتهاء ولاية المجلس الحالي، وهنا بدأت «اللعبة السياسية» عهداً جديداً غير مسبوق، ذلك أن معظم الكتل النيابية ترفض القانون القديم، وتسعى للاتفاق على قانون عصري ينهي القانون الطائفي الأكثري المعمول به منذ سنوات طويلة، وهنا بدأت السجالات من جديد.
حزب الله وحركة أمل، ومعهما كتل نيابية حزبية أخرى تطالب باعتماد قانون نسبي، وأن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة. فقامت الصرخة ضد هذا الخيار بدعوى أن سلاح حزب الله سوف يضغط على الناخب اللبناني في مناطق نفوذه، وكذلك في المناطق الأخرى تحت عنوان «سرايا المقاومة»، مما يعطل حرية الناخب في اختيار من يمثله في المجلس النيابي. وخروجاً من هذا المأزق فقد طرح البعض «القانون النسبي المختلط» بحيث يجري انتخاب نصف أعضاء المجلس بموجب القانون الأكثري، والنصف الآخر (أقل أو أكثر) بموجب القانون النسبي، لكن حتى هذه لم تجد قبولاً أو اجماعاً لبنانياً، فمنهم من قال ان «النسبي» لم يرد في دستور الطائف، ومنهم من قال ان القانون النسبي سوف يصطدم مع التوزيع الطائفي، وان المسيحيين في لبنان (مثلاً) يشتكون من أن المسلمين هم الذين ينتخبون معظم نوابهم، وبالتالي فإن الحل يكمن في اعادة توزيع المقاعد النيابية، ونقل عدد من المقاعد الى دوائر أخرى، وهذا ما يتلاءم مع الدستور (دستور الطائف) الذي دعا الى اعادة النظر بالدوائر الانتخابية والمحافظات الإدارية.
هنا بدأت اللعبة السياسية من جديد، فهناك بعض الكتل استشعرت الخطر على حجمها النيابي، واحتمال تضاؤل عدد نوابها. وكان وليد جنبلاط (زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي) أكثر الزعماء جرأة في تحسس مطالبه، ففي مؤتمر الحزب السابع والأربعين الذي عقد يوم الأحد الماضي، ذكر بأن دستور الطائف «نص على انشاء مجلس للشيوخ تتمثل فيه مختلف الطوائف والمذاهب بالتساوي، وذلك بعد إلغاء الطائفية السياسية.. عندها يمكن دراسة تطبيق النسبية كاملة أو جزء منها».
بالمقابل، دعت كتلة «المستقبل» النيابية الى «أهمية إجراء الانتخابات النيابية في موعدها دون أي تأخير، استناداً إلى قانون جديد يتيح التوافق بين مختلف الأطراف، استناداً إلى الدستور واتفاق الطائف..»، وهذا يقتضي إجراء الانتخابات بموجب القانون المعمول به سابقاً، لأن أي قانون جديد يستدعي تأجيلاً -كبيراً أو صغيراً- لإجراء الانتخابات النيابية.
أما الكتل النيابية الأخرى، القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر والقوى الإسلامية وحزب الكتائب والأحزاب العقائدية، فهي تؤكد على النسبية، دون أن تتجاوز مراعاة توزيع الدوائر الانتخابية، أو تحالفاتها مع هذا الفريق السياسي أو ذاك.
واضح من كل ما سبق، أن مسار التعطيل ما زال حاكماً لخيارات القوى السياسية في الانتخابات النيابية وقانون الانتخاب. وإذا كان تشكيل الهيئة المشرفة على الانتخابات سوف يستغرق وقتاً قد تتجاوزه الاشكالات والخيارات المفتوحة والمتعددة، فإن الخروج من القانون الأكثري الى النسبي سوف يستغرق وقتاً أطول، بل ان قطاعاً كبيراً من اللبنانيين يحتاجون الى دورات طويلة الأمد حتى يصبحوا قادرين على ممارسة حقهم الانتخابي، سواء في النسبية الكاملة أو القانون المختلط، مع مراعاة أن الطائفية السياسية ما تزال حاكمة في كل الميادين، وإذا كانت بعض القوى السياسية تتمسك بالقانون الأرثوذكسي أو أن ينتخب كل مواطن ابن طائفته أو مذهبه، فإن ذلك يؤكد أن كل التطمينات باقتراب الوصول إلى قانون عادل وعصري هي مجرد أوهام.. وصولاً إلى الفراغ الانتخابي والسياسي.