يعاني لبنان والمنطقة العربية حوله ظروفاً غير طبيعية وغير مسبوقة. فقد نزلت بلبنان حروب أهلية، وصراعات طائفية، وتعرّض لعدوانات إسرائيلية دمّرت مدنه وقراه وأتلفت بناه التحتية.. بينما كان العالم العربي حوله يكتفي بصراعات وانقلابات وانقسامات سياسية. أما اليوم فالعكس هو الذي يجري، وقد عاش لبنان قرابة ثلاث سنوات بدون رئيس للجمهورية، وأشهراً عدة بدون حكومة، ومع هذا فقد استمر دولاب الحياة يدور، والمجلس النيابي يجتمع، ورؤساء الطوائف يتحركون ويمارسون دورهم المتوارث دون أي خلل.
ماذا عن العالم العربي حولنا، بدءاً من سوريا التي انطلقت فيها ثورة شعبية مطلع عام 2011، بدأت سلميّة تطالب بالحرية والعدالة وحقوق الإنسان، فيواجهها النظام بالقتل والقهر، ثم بالدبابات والبراميل المتفجرة، لتتشكل فصائل عسكرية، ويشهد الجيش النظامي انشقاقات وانقسامات.. وتبدأ عمليات تسلل عسكري رسمي، روسي وإيراني، وصولاً الى «داعش» والنصرة وأخواتهما، فالمجموعات الكردية والتركمانية.. لتعاني سوريا انقسامات وانهيارات واسعة، ونزوح الملايين، ومصارع مئات الألوف من المدنيين الأبرياء.
في مصر، بدأت عام 2011 ثورة شعبية انتهت بانتخابات برلمانية ورئاسية واستفتاءات، وانتخاب أول رئيس مدني، ليجري الانقلاب على هذه الانجازات فيما سمي «ثورة يناير» عام 2013، وتدخل مصر في عمليات اعتقالات واغتيالات وتحكم «العسكر» بالحياة العامة حتى اليوم، دون ظهور أي أفق للخروج من النفق المظلم.
لا مجال للتوقف عند ما وقع في ليبيا بعد معمّر القذافي، ولا في العراق بعد ما يشبه الحرب الأهلية، ولا في غيرها من الأقطار.. وصولاً الى الانقسام العربي الخليجي، الذي كان يمكن أن يتحوّل الى مشروع عسكري يفضي الى ضم دولة قطر الى «مجموعة الإمارات» أو إلى المملكة العربية السعودية.. فإلى أين سوف تصل بنا أوضاع وأحداث العالم العربي، وهل تستمر السجالات في لبنان سياسية وطائفية، أم يمكن أن تتحول الى صراعات عسكرية، تبدأ تباشيرها بعد عودة مقاتلي «حزب الله» من الأراضي السورية، إذا كتب الله الوصول الى تسوية سياسية هناك؟!
المستقبل اللبناني مشوب بالغبار الكثيف، فحزب الله لم يعد مجرّد ميليشيا أو مجموعات مقاومة، وعملية الوصول إلى أي تسوية للأزمة في سوريا سوف تحتم انسحاب مقاتلي حزب الله (وسواهم) من سوريا الى العراق والأردن ولبنان، فكيف يمكن استيعاب المجموعات القتالية اللبنانية ومن يأتي معها داخل الساحة اللبنانية، أو بالتكامل أو التنسيق مع الجيش اللبناني؟! ولو بقي حزب الله فصيلاً مقاوماً لسهل الأمر، لكنه بات على رأس كتلة سياسية استطاعت أن تأتي بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، وأن يشغل وزراء حزب هذا الأخير أبرز الحقائب السيادية في الحكومة الحالية، وهو لن يستطيع التنكر لهذا الحليف الذي ضحى بالكثير من أجل أن يصل به الى رئاسة الجمهورية!! خاصة أن البلد على أعتاب انتخابات نيابية يمكن أن تحمل أكبر كتلة الى المجلس النيابي القادم.
كان بعض اللبنانيين يتمسك بخيار الديمقراطية، ماذا لو حملت هذه الديمقراطية حزب الله وحلفاءه الى ساحة النجمة، حتى لو انتهت ولاية الرئيس عون، فهذه الكتلة النيابية قادرة على أن تحمل أحد أقربائه أو أنسبائه الى قصر بعبدا، بعد أن يكون تجد تحوّل فعلاً الى «قصر الشعب»!
لا يعني هذا أن يلجأ اللبنانيون الى قلب الطاولة، خاصة إذا استمر النظام السوري حاكماً، طالما أن الانتخابات الرئاسية لو أجريت في سوريا، فهي سوف تحمل الطغمة الحاكمة نفسها الى قصر المهاجرين، لأنه ليس أمام الشعب السوري المنكوب، أو من بقي من هذا الشعب داخل سوريا أو خارجها، سوى هذا الخيار، في ظل انقسام فصائل المعارضة، ونجاح النظام في تشكيل مجموعات قتالية متطرفة، أو تكفيرية بحق، وجعل الشعب السوري أمام خيارين لا ثالث لهما: داعش والنصرة، أو النظام وأنصاره ومؤيّدوه.
على أن ذلك لا يعني أن الانتخابات النيابية في لبنان واقعة غداً أو بعد غد، سواء في شهر أيار القادم أو بعده، فهناك قوى لبنانية وكتل نيابية سبق لها أن وافقت على تمرير «القانون النسبي» للانتخابات النيابية لمجرد كسب الوقت، وحتى لا يجري اتهامها بالتسويف وتعطيل هذه الانتخابات. وهذه القوى تراهن على أن الشعب اللبناني غير مؤهل لاعتماد هذا القانون، فلبنان بلد طائفي، والقانون النسبي يعتمد اللوائح الحزبية المقفلة، وبالتالي فلا مجال لقانون نسبي، طائفي ومذهبي ومناطقي. وما يوازي ذلك هو الحديث عن البطاقات الممغنطة، وتكالفيها الباهظة، كذلك الهيئات المشرفة على الانتخابات، التي لم تأخذ طريقها بعد كي تتأهل للإشراف على هذه الانتخابات.
لبنان، أمامه طريق طويل وشائك حتى يصل، أو يستمرّ على برّ الأمان، والاستحقاقات القادمة ليست سياسية وطائفية وحسب، بل هي تندرج تحت كلا العنوانين الخطيرين، فهي مذهبية ومناطقية، إقليمية ومادية، وقد اعتاد اللبنانيون ان يكونوا في مثل هذه الحالات تحت وصاية عربية وإقليمية، مصرية أو سورية.. سعودية أو إيرانية، والاشكالية القائمة اليوم أن هذه المرجعيات -في معظمها- غارقة في مشاكلها وأشكاليات أنظمتها.. ومرجعياتها.. حتى إيران، المرجعية المتفردة لدى طائفة لبنانية أو حزب، قد لا تستمر في امكانية اهتمامها بالشأن اللبناني ودعمه مالياً وسياسياً.. فأمامها انتخابات نيابية قريبة، والمرجع القائد بلغ من العمر ما يجعله غير قادر على المتابعة.. والساحة العراقية يتفرّد «حزب الدعوة» فيها بالسلطة، وهو يعاني انقسامات واسعة، وفساداً مالياً وإدارياً كبيراً.. بصرف النظر عن الانقسامات اللبنانية المعروفة.
ان على اللبنانيين أن يمعنوا النظر في واقعهم ومستقبلهم، فالطريق أمامهم طويل ومعقّد، وصعب المسالك والمآلات.