حققت الأنظمة العربية فشلاً ذريعاً في تقديم نموذج حضاري، ولا سيما تلك التي انبثقت من أحزاب وتيارات قومية أو اشتراكية.. فأنتج حزب البعث في العراق نظاماً استبدادياً وراثياً كان يمهد الطريق لتولي «عدَيّ» أو «قصيّ» مقاليد السلطة، الى أن أسقطت القوات الأمريكية رأس النظام (صدام) ليرثه نظام طائفي لا يقل عنه تخلفاً. أما في سوريا، فقد كان نظام حافظ الأسد يمهد الطريق ليرثه «باسل»، فلما قضى جاء «بشار»، وربما يأتي بعده «ماهر» إذا قدّر الله واستمر النظام في حكم القطر السوري. لكن كلا النظامين، في سوريا والعراق نجحا في تحقيق إنجاز وحيد ما تزال مفاعليه تتابع أداءها في كلتا الساحتين العراقية والسورية، بل امتد الأداء ليشمل العالم العربي والإسلامي.
بعد قرابة ست سنوات، ما زال رئيس النظام السوري يفاخر «بأننا خسرنا خيرة شبابنا وبنياتنا التحتية، لكننا ربحنا مجتمعاً أكثر صحة وأكثر تجانساً»، وشدد على «أن سوريا مستمرة في ضرب الإرهاب طالما أن هناك إرهابي واحد على أرضها». هذا الكلام صدر عن الرئيس الأسد في خطابه الأخير، الذي ألقاه بعد مصرع أكثر من نصف مليون سوري، ونزوح نصف الشعب السوري وتشتته في كل أقطار الأرض. وأضاف: «أصدقاء سوريا الذين قدموا الدعم اقتصادياً وعسكرياً ودبلوماسياً، ساهموا بجعل التقدم الميداني أكبر.. وهم شركاؤنا الفعليون في النصر.. ستكتب الفصول عن أصدقائنا، عن دعمهم وأخلاقهم، عن روسيا والرئيس بوتين وإيران والسيد خامنئي وحزب الله والسيد حسن نصر الله»، وكثيراً ما كان كبار المسؤولين الإيرانيين يؤكدون أنه لولا دعمهم العسكري لنظام الأسد لما استطاع الصمود والتماسك. وهذا ما لا يخفيه النظام السوري ويعتبره انجازاً سياسياً في معركته ضدّ شعبه، التي استمرت من مطلع عام 2011 حتى اليوم.
نظام «البعث» في سوريا لم يعد يملك من معالم الطابع العقائدي شيئاً، بعدما تحوّل من نظام قومي عربي الى طائفي، ومن الطائفة الى العائلة، ويذكر اللبنانيون مطاردة اللواء محمد عمران في سوريا، ولجوءه الى لبنان، وعملية الاغتيال التي تعرّض لها في طرابلس، كذلك اللواء صلاح جديد الذي أمضى سنوات في السجون السورية، الى أن قضى بعد الافراج عنه بأيام. ويدرك المتابعون أن القرار في سوريا لم يعد سورياً، وانما هو إيراني حيناً وروسي حيناً آخر، وحزب الله شريك في هذا القرار، وقد أدرك المتابعون ذلك بعد عملية تطهير جرود عرسال وجرود بعلبك والفاكهة من عتاة المتطرفين. فمن أين جاء هؤلاء، ولماذا يتمتعون بهذه القدرات العسكرية في الساحتين السورية والعراقية؟
بات معلوماً لدى الجميع أن بعض كبار ضباط الجيش العراقي ساهموا في عملية الافراج عن مجموعات من عتاة المعتقلين من بقايا نظام البعث العراقي أيام صدام حسين، كانوا في سجون الرمادي والموصل وغيرها، جرى الافراج عنهم ليتوجهوا الى محافظة الرقة السورية في سيارات رباعية الدفع كانت تنتظرهم، وهؤلاء باتوا أبرز قيادات «تنظيم الدولة»، وقد طالب وزير العدل العراقي السابق بضرورة محاسبة هؤلاء الضباط التابعين لوزارة الداخلية ومحاكمتهم.
أما في سوريا، فقد تداول الإعلام اللبناني الحديث مطولاً عن «أبو مالك التلي» الذي كان يقود مجموعات تنظيم «النصرة» في جرود عرسال، وهو سجين سوري في سجن حلب المركزي قبل أن يجري الافراج عنه ليتحول الى أبرز قادة تنظيم النصرة. كما يذكر اللبنانيون «شاكر العبسي» الذي قاد تنظيم «فتح الإسلام» في مخيم النهر البارد عام 2008، حيث أفرجت عنه السلطات السورية، ليذهب الى العراق وينسق مشروعه في لبنان، وقاد مواجهة ضد الجيش اللبناني استمرت أشهراً، سقط فيها عشرات القتلى من جنود الجيش، وجرى تدمير المخيم الفلسطيني.. ليجري تهريبه الى سوريا من جديد، دون أن يعرف أحد شيئاً عن مصيره هناك.
«الإرهاب» هو الاتهام الأبرز الذي استطاعت بعض الأنظمة العربية، وحتى الدوائر الغربية والعالمية، صياغته وتوجيهه الى القوى الإسلامية منذ سنوات. وكانت أول مجموعة من هؤلاء المتطرفين قد جرى الافراج عنها من السجون المصرية، فتشكلت جماعات إسلامية متعددة، نظمت إحداها عملية اغتيال الرئيس أنور السادات بعد زيارته للكيان الصهيوني وتوقيع اتفاقية كامب ديفيد مع «إسرائيل». وهناك صفحة أخرى بالغة الأهمية ساهمت في اطلاق الفكر المتطرف في العالمين العربي والإسلامي.. فبعد الاحتلال السوفياتي لأفغانسان عام 1979، تداعت المجموعات والقوى الشبابية للجهاد في أفغانستان، وكان أبرزهم «أسامة بن لادن» الذي لجأ الى منطقة الحدود الباكستانية الأفغانية، وكانت طائرات أمريكية تتردد على مطار بيشاور الباكستاني وهي تحمل شارات لبعض الدول الخليجية.. وتنقل مساعدات للمجاهدين الأفغان والعرب هناك.
في تلك المرحلة كان الدكتور عبد الله عزام (فلسطيني-أردني) يحاول جمع الصف الأفغاني، وتوحيد الفصائل المجاهدة، لكنه فشل في ذلك، فاستقر في مدينة بيشاور قريباً من الحدود، وكان يدير المشاريع التربوية والدعوية التي انشأها أسامة بن لادن هناك، فجرى اغتياله بتفجير سيارته خلال توجهه لأداء صلاة الجمعة.. وبذلك فقد أسامة بن لادن المعلم والموجّه، ليقع فريسه عتاة المتطرفين المصريين الذين كانوا هناك.. حيث جرى الإعلان لأول مرة عن «تنظيم القاعدة».
إذن، الإرهاب دخيل على الساحة العربية والإسلامية، وإذا كانت بعض الأنظمة العربية والقوى الدولية قد نجحت في إلصاق هذه التهمة بالساحة الإسلامية، فإن الواجب يقضي بأن يتابع الإسلاميون نشأة هذا التيار، ومعرفة من قتل عبد الله عزام، ولمصلحة من جرى الافراج عن المتطرفين في السجون السورية والعراقية، وغيرها.. والله ولي التوفيق.}