سئم الشعب اللبناني -والمراقبون حوله- من تدحرج الأزمات السياسية وتراكمها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، من الشغور الرئاسي الى التمديد النيابي الى الفشل الحكومي في معالجة أزمة النفايات ثم اصدار الموازنة العامة، وصولاً إلى قانون الانتخابات النيابية، الذي تتقاذفه القوى السياسية واللجان النيابية، وصولاً إلى الحكومة ممثلة بمجلس الوزراء الذي تشارك فيه معظم القوى السياسية.
بصرف النظر عن كل ما سبق، هناك مقولة لا يعيرها الإعلام البناني كبير اهتمام، هي أن ما يجري في لبنان مرتبط بالأحداث المتفاعلة في سوريا، وأن القوى السياسية المتورّطة بالأزمة السورية هي التي تمسك بمفاتيح الأزمة اللبنانية.. وأن تمسّكها بالعماد ميشال عون مرشحاً وحيداً لرئاسة الجمهورية هو الذي عقّد الأمور وجعل عملية انتخاب الرئيس أمراً بالغ الصعوبة.. الى أن تراجع الرئيس سعد الحريري عن ثوابته ورشح خصمه السياسي سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية، وهو الصديق الحميم للرئيس بشار الأسد وابن تكتل الثامن من آذار، وعندما سقط هذا الخيار اضطر الرئيس الحريري لدعم العماد عون، مرشح الثامن من آذار وحزب الله تحديداً لهذا الموقع.
حسبَ الناسُ أن الأزمة اللبنانية انتهت بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، لكن اجراء انتخابات نيابية، بعد التمديد مرتين للمجلس الذي جرى انتخابه عام 2009، بات اجراءً بالغ الأهمية، ولا يقل عن انتخاب الرئيس. وهنا بدأت الأزمة تراوح مكانها حول القانون الذي تجري بموجبه هذه الانتخابات. فالقانون المعمول به هو ما يسمى قانون الستين، أي عام 1960، أو ما يسميه البعض قانون الراحل غازي كنعان، وقد تسابقت القوى السياسية في ادانة هذا القانون والتبرّؤ منه، والوصول إلى قانون عصري وعادل للانتخابات النيابية، ولم تجد القوى السياسية أفضل من القانون النسبي سواء باعتماد لبنان دائرة انتخابية واحدة، أو النسبي المختلط، أو بالعودة إلى سبعة عشر مشروع قانون مركونة في خزائن مجلس النواب، وفي طليعتها «القانون الأرثوذكسي» الذي يعتبر تراجعاً كبيراً عن دستور الطائف الذي قضى بتشكيل «الهيئة العليا لإلغاء الطائفية السياسية» برئاسة رئيس الجمهورية.
بالعودة إلى الترابط الوثيق ما بين الأزمات اللبنانية والأحداث الدائرة في سوريا، والقوى السياسية اللبنانية المتورطة في الملف السوري. ليس من مصلحة هذه القوى، وربما ليس بإمكانها خوض الانتخابات النيابية في الوقت الذي تتورّط فيه بنيتها العسكرية والأمنية، فضلاً عن مؤسساتها السياسية في حرب بدأت قبل سنوات وقد تستمر سنوات أخرى داخل الأراضي السورية. فمتى سوف تنسحب وكيف، والى أين.. وكيف ستواجه الرأي العام اللبناني، والإسلامي كذلك، بعد خوضها حرباً ضروساً لسنوات، دون أن تحقق الغاية التي دخلت من أجلها هذه الحرب؟! وإذا كان الشأن العسكري هو همّها الأول، فإن التطور السياسي بات هو الذي يشغل الساحة السورية، سواء كانت المعارضة السياسية والعسكرية، أو التابعة للنظام وبقاياه المنتشرة في عدد من المحافظات السورية.
وقد خاضت القوى العسكرية والسياسية السورية تجربتين مريرتين خلال الأسابيع الماضية، فمن مؤتمر الآستانة الذي شاركت فيها الفصائل السورية برعاية مباشرة من الثلاثي الإقليمي: إيران وتركيا وروسيا، الى مؤتمر جنيف الرابع الذي ما زالت وقائعه تتوالى حتى كتابة هذه السطور.. الى ما يدور في الكواليس، وما يفرضه الحراك العسكري التركي الذي حسم معارك منطقة الباب، وهو يتحرك باتجاه منطقة منبج كي يفرض واقعاً جديداً على الجبهة السورية، لا سيما بعد التراجع الإيراني وقرب انشغال إيران بانتخاباتها الرئاسية والنيابية في شهر أيار القادم. والتحرك الجديد للإدارة الأمريكية في ولاية الرئيس (ترامب) الذي هدّد إيران واعتبر أنها في طليعة مناصري الإرهاب على مستوى العالم.. هنا لا بدّ من الوقوف ملياً عند مجريات الأزمة السورية وتداعياتها.
فرئيس النظام في سوريا (بشار الأسد) بات مداناً دولياً بارتكابات بالغة الخطورة في سفك دماء الشعب السوري، وآخرها تقرير منظمة العفو الدولية الذي خلص الى اتهام النظام -بأمر من رئيسه- أنه تورّط في عمليات اعدام لثلاثة عشر ألف مواطن سوري في السجون السورية، وأبرزها سجن تدمر وصيدنايا وغيرهما، فضلاً عن القصف الجوي الذي يستهدف المدن والقرى الآمنة، وكذلك المشافي والمساجد خلال أوقات أداء الصلاة. وما قاله رئيس وفد المعارضة في مؤتمر جنيف (نصر الحريري) من أن قوات النظام باتت تدعم «تنظيم الدولة - داعش» في مواجهة قوى المعارضة وفي طليعتها «الجيش الحرّ»، مع أن المؤسسات الدولية، السياسية والإنسانية، تعترف بهذه الفصائل العسكرية وتنسق معها. اضافة إلى القرار الذي جرى طرحه في مجلس الأمن الدولي من قبل قرنسا وبريطانيا وعدد من الدول الغربية، لولا الفيتو الروسي - الصيني الذي جمّد القرار وعطل مفاعيله.
كل ذلك يجعل النظام السوري في موقف حرج، قد يجعل داعميه الدوليين وعلى رأسهم روسيا وإيران، يتراجعون عن تقديم هذا الدعم، خاصة بعد تراجع القدرات المالية لهذه الدول. وبالتالي فإن الأوساط الإقليمية والدولية باتت تتجه نحو تقديم تنازلات سياسية تصل الى التخلي عن رأس النظام (بشار الأسد) والرهان على نظام جديد يأتي ببشار آخر هو بشار الجعفري مندوب النظام في الأمم المتحدة، والمتحدث باسمه في مؤتمري الآستانة وجنيف، خاصة أن بعض الدوائر الإيرانية باتت تتحدث عنه كبديل أكثر كفاءة وقدرة، وهو «بشار» وأقرب إليها مذهبياً وسياسياً من رأس النظام، الذي لا يتحلى بقدرات سياسية، فضلاً عن أنها تقع في حرج شديد لدعمها نظاماً وراثياً حصر الرئاسة بعائلة واحدة، فقدت رصيدها ومكانتها على الساحة السورية.. فهل تلجأ الى هذا الحل؟!