لم يعد خافياً على أحد أن الاشكاليات الدستورية والأزمات التي عانى منها لبنان خلال السنوات الثلاث الماضية، لم تكن فقط بسبب الخلاف على شخص رئيس الجمهورية، ولا على قانون الانتخابات، وانما هي أكبر من ذلك وأعمق.. انها عملية تعطيل للحياة السياسية والمؤسسات الدستورية في البلد، وما تزال مفاعيل التعطيل سارية المفعول الى أن يأذن الله بالفرج، ويصبح للبنان مجلس نيابي شرعي، وحكومة مستقرة، وانتخابات نيابية في مواعيدها المحددة، كما كان يجري في لبنان وكل دول العالم الحرة الديمقراطية.
وكما كانت مبادرة الرئيس سعد الحريري صادمة لمشروع التعطيل، فجرى انتخاب رئيس للجمهورية وبعده تشكيل حكومة العهد الأولى، فإن الخروج من إشكالية قانون الانتخاب يستدعي مبادرة أخرى صادمة، تطرحها إحدى القوى السياسية الرئيسية، فتضمن إجماعاً وطنياً أو شبه إجماع، أو مجرّد توافق على قانون الانتخابات المأمول، ليجري اعتماده وتحديد الموعد القادم لإجراء الانتخابات على أساسه.. وإلا فإن التعطيل سيبقى سيّد الموقف على الساحة اللبنانية.
وما يزيد على ذلك غرابة هو أن التباينات على الساحة السياسية اللبنانية لم تصل بعد إلى الشأن السياسي الذي تختلف فيه الأحزاب والكتل النيابية، ولم يصدر أي حزب أو تكتل نيابي برنامجه الانتخابي، أو موقفه السياسي من الأزمات الداخلية والخارجية، لا سيما إزاء الحرب الدائرة في سوريا ومشروعية القتال بشكل رسمي وعلني الى جانب النظام الجائر أو الشعب السوري المقهور.. بينما تشارك معظم الكتل النيابية في الحكومة القائمة، سواء حملت اسم «حكومة الوحدة الوطنية» أو «حكومة المصلحة الوطنية»، وكل ذلك آت غداً أو بعد غد، وهناك سوف تكون القوى السياسية أمام تباينات أوسع وأكبر من قانون الانتخابات، سواء كان نسبياً أو أكثرياً أو مختلطاً. وإذا استغرق الخلاف حول قانون الانتخاب سنوات.. فكم سوف يستغرق الخلاف حول سلاح المقاومة، الذي انتقل من الجنوب اللبناني لينتشر عبر الحدود اللبنانية الشرقية باتجاه الأراضي السورية؟!
إذا قلبنا بعض صفحات تاريخنا الحديث فسوف نجد أن فيه طاولة حوار كانت تنعقد عام 2012 في القصر الجمهوري خلال ولاية الرئيس ميشال سليمان، وأن «هيئة الحوار الوطني اللبناني» التي شكلها رئيس الجمهورية توصلت الى إعلان صدر في 11/6/2012، حمل اسم «اعلان بعبدا» بحضور ومشاركة القوى السياسية الرئيسية، وجاء في القرارات التي وافق عليها الجميع: «تحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، وتجنيبه الانعكاسات السلبية للتوترات والأزمات الإقليمية، وذلك حرصاً على مصلحته العليا ووحدته الوطنية وسلمه الأهلي»، وجاء في بند آخر: «دعم الجيش على الصعيدين المعنوي والمادي بصفته المؤسسة الضامنة للسلم الأهلي والمجسدة للوحدة الوطنية..»، وقد نص البيان على تحديد مواعيد لاحقة لوضع «استراتيجية دفاعية» تحدد دور كل من الجيش والشعب والمقاومة في هذه الاستراتيجية. لكن طاولة الحوار انفضت ولم تنعقد، حتى لا يتم الوصول الى توصيف محدد لكل من عناصر ثلاثية مواجهة العدوّ الصهيوني المذكورة آنفاً.. أفلا تستحق هذه القضية ان يعيد اللبنانيون طرحها ودراستها للوصول إلى معادلة وطنية وفاقية تتبناها الحكومة اللبنانية حتى لا تقع في محاذير التناقض التي تورّط فيها كل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء الشهر الماضي.
فقد سئل رئيس الجمهورية قبيل سفره الى القاهرة عن موقفه من سلاح حزب الله، فأجاب بأن سلاح الحزب جزء أساسي من الدفاع عن لبنان، والجيش اللبناني ليس قوياً كفاية..»، فهل هذا هو الموقف اللبناني الذي يعبر عنه رئيس جمهورية كل لبنان، وأين هو من اعلان بعبدا الذي صدر عن طاولة الحوار الوطني في بعبدا.. ليضطر الرئيس سعد الحريري الى الإعلان عن موقف مغاير في خطابه الذي ألقاه في ذكرى اغتيال والده يوم 14 شباط. لقد صدر عن الرئيس عون موقف متوازن في خطابه الذي ألقاه عند أداء القسم بعد انتخابه رئيساً، كما أن الموقف الذي أعلنه الرئيس الحريري في بيان الحكومة الوزاري جاء متوازناً ومقبولاً من الجميع.. فهل كان تصريح الرئيس عون مجرّد زلة قدم، أو زلة لسان.. أم هو جزء من تسديد حساب طويل الى حليفه السياسي (حزب الله) الذي تبنى ترشيحه لموقع رئاسة الجمهورية، واعتبر أنه المرشح الوحيد لمنصب الرئاسة؟!
هناك اشكالية أخرى وقع فيها «العهد الجديد» هي موقف وزير الخارجية (جبران باسيل) صهر الرئيس ورئيس حزبه، في مؤتمر وزراء الخارجية العرب الذي انعقد في القاهرة العام الماضي، وامتناعه عن التصويت الى جانب القرار الذي أدان الاعتداء على السفارة السعودية في طهران وقنصليتها في مشهد، وامتناعه يوم الثلاثاء الماضي عن المشاركة في اللقاء التحضيري لمؤتمر القمة العربي الذي ينعقد بعد أيام في الأردن.. وبعد كل هذا يتابع المسؤولون اللبنانيون معاتبة الدول الخليجية -ولا سيما السعودية- لوقف مساعداتها للبنان، لا سيما المتعلقة منها بدعم الجيش اللبناني.
لم يعد الواقع اللبناني يحتمل تسديد حسابات ولا ردّ جميل لهذا الفريق اللبناني أو ذاك، وقد آن الأوان لأن تطوي الحكومة اللبنانية صفحة الانتخابات النيابية وقانونها الموعود، بتبني المشروع الذي قدمه الرئيس نجيب ميقاتي، أو الذي تدعو إليه كتلة تيار المستقبل وتبناه الرئيس سعد الحريري.. ليصل البلد الى فتح الملفات السياسية والاستراتيجية التي سوف تستهلك الكثير من الحوار والسجال السياسي.