يعاني لبنان ظروفاً مأساوية ضاغطة، ليس في المجال السياسي والاجتماعي فقط، ولكن في شتى المجالات الاقتصادية والمعيشية، وحتى في مجالات الاستقرار الأمني. فالنواب ما عادوا يخجلون من اتهام بعضهم بأنهم يهزؤون بشعبهم المظلوم، وأن من المعيب أن يمارسوا عملية قتل الوقت من أجل تعطيل الاستحقاقات الدستورية كإجراء الانتخابات النيابية، وعقد جلسات لحل مشاكل البلد ومعالجة أزماته الضاغطة، حتى بتنا على يقين بأن البلد إذا خرج من أزمة فإنه سوف يقع في أزمة أخرى أشد تعقيداً من سابقتها. لكن هل لبنان وحده يعيش هذه الأزمات ويعاني مشاكل معقدة ومتلاحقة؟
العالم العربي كله يعاني أزمات. ولعل ما يمتاز به لبنان أن أزماته دستورية وسياسية، بينما الأقطار الأخرى غارقة في حروب أهلية وصراعات عسكرية منذ سنوات، دون أن تبدو في الأفق أي ثغرة للخروج من هذه الأزمات.
خذوا سوريا مثلاً، أقرب الأقطار الى لبنان، التي مارست دور «دولة الوصاية» التي كانت مراكز مخابراتها تشكل الحكومات وتقيلها، وتمدّد ولاية رئيس الجمهورية أو المجالس النيابية، دون ضجيج ولا أزمات. وكانت تكفي اشارة من «عنجر» لتوجيه خيارات الكتل النيابية أو القوى السياسية، وهي اليوم منذ مطلع عام 2011 تعيش في حرب طاحنة، بدأت بمظاهرات شعبية مطلبية، ترفع شعار الحرية والديمقراطية، وتردد نداء «يا الله يا الله.. ما لنا غيرك يا الله»، وانتهت باستعمال النظام كل أسلحته الثقيلة لمواجهة الشعب الأعزل، وباستقدام الميليشيات الطائفية، لبنانية وعراقية ومن كل أصقاع الأرض لسحق ثورة الشعب السوري وشد أزر النظام، ليتابع أداءه الاستبدادي الوراثي الطائفي. وإذا كان النظام قد فشل في الاستجابة لمطالب الشعب السوري، فقد نجح في تشكيل خلايا إرهابية حملت اسم الإسلام وشعاراته، ليقول للعالم إنه يواجه حركات إرهابية متطرفة، وأن مواجهة هذه التيارات تشكل أولوية في التصدي لها حتى لا يمتد خطرها الى بقية أنحاء العالم.
وأين هي سوريا اليوم؟ لقد سقط قرابة ستمائة ألف سوري ضحايا الحرب الدائرة، لا سيما نتيجة القصف الجوي والمدفعي، والبراميل المتفجرة، وإحراق المعتقلين الأبرياء في سجن صيدنايا وهم أحياء. وتشريد ملايين السوريين في الأقطار المجاورة وفي كل أنحاء العالم، طلباً للمأوى ولقمة العيش والهروب من بغي النظام. حتى لو كتب الله لسوريا أن تخرج من الحرب ويجري الاتفاق على وقف اطلاق النار في الاستانة أو جنيف.. كم من الوقت تحتاج عملية اعادة بناء سوريا.. بعد أن جرى تدمير المدن والقرى والبنى التحتية.. وهذه عملية تحتاج إلى عشرات مليارات الدولارات.
وفي ليبيا، التي اشتكى فيها الشعب من ظلم العقيد معمّر القذافي وتفرّده بالحكم، وتبديده ثروات الشعب الليبي النفطية، دخلت ليبيا في حروب أهلية تحت عناوين مختلفة، وباتت مقسمة بين ولايات وأقاليم يمكن أن تعصف بوحدتها الوطنية، وتعطي الأقطار المجاورة فرصة لتقاسم ثروات الشعب الليبي المقهور. ويقول البعض ان الربيع العربي هو المسؤول، وانه لولا تقدم الإسلاميين نحو سدّة الحكم والسلطة لما نشبت هذه الحروب والانقسامات، متناسين أن الحكم الفردي المستبد لا يمكن أن يستمر ممسكاً بمقدرات الشعب وثرواته الى الأبد. وإذا كان الحكم المستبد قد نجح في سحق القوى الحزبية والسياسية حتى لا يكون له شريك ولا وريث، فذلك لا يعني ان يستمر هذا الوضع الى الأبد.
واليمن السعيد، الذي ثار على نظام علي عبد الله صالح، وبدأ طريقه باتجاه دولة ديمقراطية حديثة، ليعود «سعيداً» كما كان، شهد انقلاباً على نظامه نتيجة تحالف ما بين «قوات صالح» والعشائر التابعة له، وقبائل طائفية تسعى إلى استعادة دورها الذي كانت تمارسه في اليمن في عهد آل حميد الدين أو سواهم، قبل ثورات الشعب اليمني، سواء ضد حكم الامامة عام 1948، أو بزعامة عبد الله السلال عام 1962، وما تزال اليمن تعاني حروباً أهلية، دخلت فيها أطراف إقليمية وربما دولية. وعلى الرغم من محاولات دولة الكويت جمع أطراف النزاع لمجرد الوصول إلى وقف لإطلاق النار، وقد فشلت هذه المحاولات.. فإن اليمن مهدد بالانقسام من جديد، ما بين شمال وجنوب، وتوزع الولاء بين الدول الخليجية، فضلاً عن الانقسام الإيراني الخليجي بشكل واسع.
إلى أين نكمل الطريق؟ الى مصر التي انقلبت على أول حكم مدني ديمقراطي في تاريخها القديم والحديث، والى أزماتها الاقتصادية وانهيار قدراتها المالية، أم الى الأردن الذي يعاني نفس الانهيارات نتيجة تدفق النازحين العراقيين والسوريين، أم الى الشمال الافريقي الذي يعاني في الجزائر أزمات دستورية بعد الانتخابات النيابية، أم إلى تونس التي كانت تعيش على السياحة فنضب معينها نتيجة الخوف من تهديدات داعش وأخواتها، وعدم الاتفاق على نظام حكم عادل ومستقر، الى المغرب الذي حقق فيه حزب العدالة والتنمية أغلبية نيابية واضحة، وحرص من بيدهم السلطة على أن ينأوا برئيس الحزب المنتصر (عبد الإله بن كيران) عن تشكيل الحكومة وتحقيق مشروعه السياسي.
أين نحن من كل هذه النماذج حولنا في العالم العربي؟! نحمد الله أننا مارسنا الحروب الأهلية وصراعات الطوائف والمذاهب والأحزاب.. وأن استغراقنا في الفراغ الرئاسي أو التمديد للمجلس النيابي لم يصل بنا إلى ما هو أكبر وأخطر. ومؤسف جداً ان يكون لبنان والعالم العربي غارقين في هموم ومشاغل داخلية، في الوقت الذي يخطط قادة العالم لإعادة تشكيل الشرق الأوسط، والعالم العربي خاصة، بزعامة الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب. وأنه كما عكف وزيرا خارجية بريطانيا وفرنسا على انجاز اتفاقية (سايكس - بيكو)، فإن وزيري خارجية أميركا وروسيا (كيري ولافروف) سبق أن اطلقا صيغة جديدة للعالم العربي، وإن مؤتمر الرياض (العربي الإسلامي الأميركي) في الأسبوع القادم، سوف يحمل هذا المشروع.. وسيكون لبنان جزءاً منه.. والله الموفق.}