ليس عبثاً تركيز الكيان الصهيوني على المسجد الأقصى في هذه الفترة الزمنية، ذلك أن العالم العربي غارق في همومه وأزماته السياسية والكيانية. حتى دول الخليج التي لا يكاد المراقب يرى أو يسمع فيها عن أي خلاف حدودي أو فكري أو سياسي، نشبت فيه أزمة مصطنعة تحت عنوان «ادانة دعم الإرهاب»، لتغلق الحدود ويقفل المجال الجوي والبحري والبري، مما استدعى تدخلاً لم يسبق له مثيل من رؤساء ووزراء خارجية الدول الغربية الكبرى، الأميركي والبريطاني والفرنسي، فضلاً عن عدد من الدول العربية وفي مقدمتها الكويت، فلا يكاد رئيس أو وزير يغادر حتى يأتي آخر، مع أن الخلاف في منطلقاته عشائري، وسوف يرى العالم أنه لن ينتهي إلا بحل عشائري، من هذه الدولة الخليجية أو تلك.
الكيان الصهيوني الذي حاصر المسجد الأقصى ومنع صلاة الجمعة فيه، وفرض حصاراً غير مسبوق بإقامة بوابات الكترونية عند مدخل المسجد الأقصى، مما سوف يستدعي مراقبة أمنية إسرائيلية عند البوابات الالكترونية، وربما وجود كلاب بوليسية، مما يجعل أداء الصلاة في الأقصى لأول مرة في التاريخ تحت رقابة أو سلطة قوات الاحتلال.
وبالعودة إلى منشأ الأزمة الأخيرة، نرى أن شرارتها انطلقت بعيداً عن المسجد، ففي أحد شوارع مدينة القدس الجانبية، يطلق شابان فلسطينيان أعيرة نارية باتجاه رجلي شرطة إسرائيليَّين، مما استدعى ملاحقة الشابين الفلسطينيين حتى ساحة الحرم القدسي وأطلقا عليهما الرصاص، مما أدى الى سقوطهما شهيدين. فإطلاق الرصاص على رجلي الشرطة وقع بعيداً عن المسجد، لذلك فلا مبرر لمنع أداء الصلاة في الحرم طيلة أيام ثلاثة، من ظهيرة الأحد حتى ظهر الثلاثاء!! ليس ذلك فقط، وانما تخطته الى حظر دخول المسؤولين المنتدبين وحتى خطيب المسجد وإمامه من الدخول، مما جعل أبناء البلد من المقدسيين والقادمين للصلاة في حرج شديد، وقد تجاوب عدد كبير من الفلسطينيين مع الدعوات التي انطلقت لمقاطعة البوابات الالكترونية، وأدوا الصلاة خارج المسجد عند باب الأسباط.
والأسوأ من كل ما سبق أن سلطات الاحتلال حاولت استغلال الحدث طائفياً داخل الساحة الفلسطينية، لإضفاء مزيد من التأزيم والاحتقان، ذلك أن رجلي الشرطة الإسرائيليين اللذين قتلا هما من العرب الدروز، الذين يعملون في أجهزة الأمن والجيش الإسرائيلي، مما انعكس في القاء قنبلتين على مسجدين في قرية المغار، القريبة من مدينة أم الفحم التي انطلق منها مطلقو الرصاص، مما أدى إلى نشوب حالة من الاحتقان في الساحة الدرزية، طالب بعضهم فيها بضرورة ادانة واستنكار العملية وعدم المشاركة بجنازة الشباب من آل «جبارين» الذين قتلوا رجلي الشرطة الإسرائيليين.
أما في القدس فقد اجتمع مجلس الافتاء الإسلامي برئاسة الشيخ محمد حسين، الذي أعلن في بيان له بعد الاجتماع، أن «تقرر بالاجماع أن الدخول الى الأقصى من البوابات الالكترونية لا يجوز، وأن كل من يدخل منها فصلاته باطلة. وناشد الفلسطينيين شدّ الرحال الى الأقصى، ورفض اجراءات العدوان الإسرائيلي الجائرة، المتمثلة في تغيير الوضع التاريخي القائم ومقاطعتها». كما عقدت القوى والهيئات الوطنية اجتماعات في رام الله والقدس وقطاع غزة أعلنت في ختامها رفض قبول التغيرات التي أدخلتها السلطات الإسرائيلية في المسجد. وقال وزير شؤون القدس في السلطة الفلسطينية (عدنان الحسيني): «لن نقبل أي تغيير في المسجد، لأن السلطات استغلتها من أجل احداث تغيير خططت له منذ زمن، اليوم يضعون بوابات الكترونية، وغداً كاميرات، وبعد غد يجرون تقسيم المسجد، وهذا أمر لن نقبله أبداً«.
في هذه الأثناء، قال رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية «حماس» اسماعيل هنيّة «ان الشعب الفلسطيني ومقاومته لن يسمحا بتمرير مخططات الاحتلال في المسجد الأقصى» مشدداً على أن المعركة هي معركة هوية وعنوان قضيّة، من دونها ترخص الدماء وتهون الأرواح. وأضاف مخاطباً أهل القدس: «نحن في معركة واحدة، وحماس لن تسلمكم ولن تخذلكم، وأبناؤها يعرفون طريقهم لنصرة الأقصى. وقد شدّدت حركتا حماس والجهاد الإسلامي على أن الأقصى خط أحمر، والمسّ به أمر لا يمكن السكوت عنه، ودعتا في بيان مشترك «الى وقف الاجراءات الصهيونية ورفع يد الحكومة المتطرفة عن المسجد وعودة السيادة عليه الى دائرة الأوقاف الإسلامية كما كانت، ووقف اقتحام المستوطنين ساحاته، والكف عن ملاحقة المصلين والمرابطين».
نخلص من كل ما سبق الى أن العدوّ الإسرائيلي يدير مؤامراته عبر الحدود، وإذا كانت أحداث مدينة القدس والمسجد الأقصى بعيدة عنا مكانياً فإن ساحتنا اللبنانية مهدّدة خلال الأيام القليلة القادمة بمأزق لا يقل خطراً عما تتعرض له مدينة القدس. فالنازحون السوريون الى سهل البقاع وجرود عرسال معرّضون للوقوف أمام خيارات صعبة: ذلك أن شريحة واسعة من القوى السياسية اللبنانية تطلق على الجميع وصف إرهابيين أو تكفيريين، وهذا خطأ فاضح، ذلك أن ما جرى في سوريا خلال السنوات الست الماضية بدأ بثورة شعبية ضد نظام جائر، وقد أفلح هذا النظام وحلفاؤه في وقف الدعم والتأييد لفصائل سورية معتدلة كالجيش الحر وغيره، واطلاق يد غلاة المتطرفين ليشكلوا فصائل ذات وزن عسكري وبشري لا يضاهيه أحد. وسيكون السوري المقيم في عرسال أو جرود عرسال، وذلك اللبناني من أبناء المنطقة أمام خيارات بالغة الصعوبة، ذلك أن الميليشيات الطائفية المناصرة للنظام سوف تضغط على قوى الثورة كي تكون أمام خيارين: ان تلقي سلاحها وتستسلم، أو أن تلجأ إلى الداخل اللبناني لتكون في مواجهة مع الجيش اللبناني الذي سوف يكون مضطراً للدفاع عن حدود وطنه. ماذا عن النازح السوري أو المواطن اللبناني؟! سوف تكون خياراته بالغة الحرج والصعوبة.