العدد 1530 /28-9-2022

بقلم : وائل قنديل

"أتقدّم بخالص العزاء إلى الأمة الإسلامية وشعوب الأمة العربية في وفاة العلامة فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، تلك الشخصية المؤثرة التي قضت حياتها في خدمة دينها، واجتهدت في الارتقاء بالفقه الإسلامي". التوقيع: شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب.

للأسف، المنشور أعلاه محض خيال من كاتب السطور، جرت صياغته بمحاكاة النص الأصلي المعتمد لعزاء شيخ الأزهر في وفاة الملكة إليزابيث الثانية، قبل نحو أسبوعين، والذي جاءت صياغته على النحو التالي باللغتين العربية والإنجليزية: "أتقدّم بخالص العزاء إلى الملك تشارلز والعائلة الملكية وشعب المملكة المتحدة في وفاة الملكة إليزابيث الثانية، تلك الشخصية المؤثرة التي قضت حياتها في خدمة بلادها واجتهدت في الارتقاء بشعبها".

لماذا سارع شيخ الأزهر إلى نعي ملكة بريطانيا، بعد ساعات من وفاتها، بينما بقي صامتًا، حتى كتابة هذا المقال، أمام خبر وفاة أكبر علماء الأمة الإسلامية في نصف القرن الماضي، والرئيس السابق لهيئة العلماء، أعلى هيئات الأزهر الشريف، فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي؟

لا يكفي هنا القول إن شيخ الجامع الأزهر محكومٌ باعتباراتٍ سياسيةٍ تخص النظام الحاكم في بلد الأزهر الشريف، الذي هو المؤسّسة التي تمثل المسلمين في جميع أنحاء العالم، وتتعلّق بها قلوب مئات الملايين من البشر وعقولهم في قارّات الدنيا الست.

لا يليق بمقام الأزهر الشريف، ولا مكانة إمامه الأكبر أن تكون مواقفه تبعًا لمواقف السلطة الحاكمة في مصر، يذهب إلى حيث تتّجه رياحها، ولا يتكلم في شأنٍ يخصّ الأمة إلا إذا هي تكلمت، وإن تكلم فلا ينطق إلا بما يحاكي كلامها ويتناغم مع مواقفها.

لم يكن الراحل الكبير مجرد واحد من العلماء الكبار الذين أفنوا حياتهم في خدمة الدين والفقه، بل هو بكل المقاييس العلمية العالم الأكبر، حتى من الإمام الأكبر، يؤهّله لهذه المكانة نحو 170 مؤلفًا في القرآن والسنة تناول كل ما يخص الأمة في الفقه والمعاملات وبناء الشخصية الإسلامية، ناهيك عن كونه مجسّدًا لحالة العالم الحاضر في كل معارك الشعوب الإسلامية، ضد الاستعمار والاستبداد، ضاربًا المثل في كيف يكون الدين للحياة.

كان الجميع يهرولون مقتربين من فضيلة العلامة القرضاوي، حين هبّت الشعوب تطلب التحرّر من الظلم والاستبداد وفساد الحكام، فكان أن أسرع شيخ الأزهر في العام 2011 إلى الراحل الكبير يرجوه أن يكون على رأس تشكيل هيئة كبار العلماء التابعة لمشيخة الأزهر، لتكون معنيةً بانتخاب شيخ الأزهر المقبل، بحسب التعديلات الأخيرة في قانون الأزهر.

لم يستمر الحال طويلًا، إذ لم يأت يوم الثلاثين من حزيران 2013 حتى كان شيخ الأزهر يقف في صف الاستبداد والطغيان، ويقحم نفسه في لعب أدوار سياسية لخدمة منفّذي الانقلاب العسكري في مصر، فيقرّر العلامة القرضاوي أن يفضّ يده من المشاركة في أزهر يمارس اللعبة السياسية، كأسوأ ما تكون الممارسة، معلنًا استقالته من هيئة كبار العلماء بالأزهر احتجاجا على موقف شيخ الأزهر، أحمد الطيب، من تطورات الأحداث في مصر، صارخًا في البرية "أتقدّم أنا يوسف عبد الله القرضاوي باستقالتي من هيئة كبار العلماء، إلى الشعب المصري العظيم، وليس لشيخ الأزهر، ويوم تعود للشعب حريته، ويردّ الأمر إلى أهله، فإن على علمائه أن يختاروا شيخهم وهيئة كبار علمائهم بإرادتهم الحرّة المستقلة".

هذا نموذج العالم الحق، الذي تفتقر إليه شعوب أمة منكوبة بحكام، وطبقة من علماء السلطة ممن يطلق عليهم "رجال الدين"، يتم انتقاؤها بعناية، ورعايتها وفرضها على المجال العام، وتضخيمها وتفخيمها، ثم فجأة يتم نسفها نسفًا وتحطيم صورها، ليكون الخاسر في النهاية هو مفهوم رجل الدين.

كان القرضاوي، بهذا المعنى، آخر من يحفظ لرجل الدين صورته النقية ومكانته الرفيعة ونزاهته في القول والفعل، إمامًا للعلماء أصحاب المواقف، الذين لا يبيعون الفقه والفتوى في دروب السياسة، ويهبطون بتعريف رجل الدين إلى مستوى ضاربي الطبل ونافخي المزامير.

هل ننعي الراحل العظيم الدكتور القرضاوي، أم ننعي الأزهر الذي يكون بمثابة المنتحر، حين لا يجرؤ شيخه وإمامه الأكبر على النطق بكلمة حقٍّ عن أمام الأئمة وعالم العلماء؟.

الحق أنه يجب أن نعزّي أنفسنا في أزهر له هيئة علماء خرساء صمّاء، اختارت فور إذاعة نبأ رحيل الدكتور القرضاوي أن تعلن عن إقامة ملتقى علمي يبحث فيما أسمته "التأويلات الحداثية لنصوص الوحي وخطرها على الأمن المجتمعي".

ما أصغركم!