العدد 1493 /29-12-2021

بقلم: ياسر الزعاترة

"من جمر إلى جمر.. صفحات من ذكريات منير شفيق"، هو عنوان الكتاب الذي صدر قبل شهور عن "مركز دراسات الوحدة العربية" في بيروت، وهو عبارة عن حوارات أجراها الكاتب والأديب الفلسطيني الراحل نافذ أبو حسنة، مع منير شفيق، ثم حرّرها كمذكرات أو سيرة ذاتية للمناضل الفلسطيني الكبير والمعروف، مع أن 560 صفحة، لا تبدو برأيي كافية لتتبع سيرة الرجل الذي لم يكن مناضلا وحسب، بل كاتبا ومفكرا كبيرا قبل ذلك وبعده.

والخلاصة أن الكتاب يعطي صورة عن منير شفيق المناضل والإنسان، لكنه لا يعطي صورة كافية عن منير شفيق المثقف والمفكر، وهي التي تعكسها عشرات الكتب والأبحاث، ومئات المقالات التي نشرها خلال مسيرته الطويلة؛ هو الذي تجاوز الـ85، وندعو الله أن يمدّ في عمره، ويكرمه بالصحة والعافية.

عنوان الكتاب جميل، وهو يمنح صورة واقعية عن حقيقة الرجل، لأن تحوّلاته الفكرية والتنظيمية والنضالية لم تكن رحلة من صعب إلى سهل، بل من صعب إلى صعب، وربما أصعب، لكنها تحوّلات قد تدفع جاهلا أو مغرضا إلى اعتبارها لونا من التقلبات الشائعة في عوالم السياسة.

قد يحدث ذلك تبعا لكونه يتحدّر من أسرة مسيحية من القدس، وبدأ حياته النضالية في الحزب الشيوعي مطلع الخمسينات، واعتقل إثر ذلك ما يقرب من 10 سنوات، ثم انتقل بعدها إلى حركة "فتح" نهاية الستينات، ووصل موقعا بالغ الأهمية (مدير قسم التخطيط في "منظمة التحرير")، وليصل بعد ذلك إلى المحطة الإسلامية، بتجربة "سرايا الجهاد الإسلامي" التي سبقتها محطة مهمة أخرى، تمثّلت فيما يعرف بـ"الكتيبة الطلابية" أو "كتيبة الجرمق"، والتي كانت لها سيرة نضالية رائعة ضمن إطار حركة "فتح"، مع تميز واضح عنها؛ في الخط السياسي والنضالي (غطّى تفاصيلها أيضا في كتاب "شهداء ومسيرة").

والحال أن من يعرف منير شفيق عن قرب، فضلا عن أن يقرأ الكتاب؛ سيدرك أن الرجل كان هو ذاته في كل المحطات، من حيث صلابة الالتزام الأخلاقي والنضالي، ومن حيث منهجية التحليل، مع صواب البوصلة، بخاصة فيما يتعلّق بقضيته المركزية (فلسطين)، فضلا عن قضايا الأمّة الأخرى.

لقد كانت تناقضاته مع الحزب الشيوعي ذات صلة بمواقف الحزب التابعة للسوفييت من قضية فلسطين ومن القضايا العربية، وبرزت بوضوح داخل السجن، لكن صلابته النضالية لم تسمح له بكشف ذلك، خشية القول إنه يفعل ذلك لأجل الخروج من السجن في الأردن، فكان أن كتمها حتى خروجه مع بقية "رفاقه" بـ"عفو عام".

ثم كان الانتقال الطبيعي إلى حركة أطلقت كفاحا مسلّحا وجماهيريا من أجل قضيته، وهي "فتح"، والتي كانت تستوعب ذوي النزعة اليسارية أيضا، وسبقه فيها أناس من ذات اللون ومقرّبون منه، ثم جاءت تناقضاته التالية مع "فتح" أيضا ضمن ذات الإطار المتعلق بفلسطين، وإن حضرت الأفكار في مرحلة تالية، من خلال الانتقال إلى المربع الإسلامي، وحيث كانت الصحوة الإسلامية قد انطلقت كعنوان لتثوير الجماهير الفلسطينية والعربية والإسلامية بعد الثورة الإيرانية وحضور "الجهاد الأفغاني"، وبدايات الدور الإسلامي في فلسطين. والنتيجة أن محرّك الانتقال هنا، كان أيضا ذا صلة بفلسطين وقضايا التحرّر في العالم العربي والإسلامي، فيما يغيب عنه البعد الشخصي، بل يتناقض معه تماما؛ أعني لجهة المكاسب والامتيازات.

شخصيا؛ تشرّفت بصداقة منير شفيق منذ التقيته في تونس عام 1991، بعد أن تعرّفت عليه من خلال كتاباته، وكنت حينها في زيارة لإجراء حوار صحفي مع ياسر عرفات، رحمه الله. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع أواصر الصداقة مع الرجل، بل زادت وتجذّرت.

إنه رجل يقدم نموذجا أخلاقيا عاليا، ويشعر المرء أنه يتعلم منه كلما التقاه (جمعتنا مئات اللقاءات)، إن على صعيد السياسة والفكر والتحليل، أم على صعيد الالتزام الأخلاقي، وذلك في وسط يندر فيه الالتزام، ويكثر فيه التهافت على المكاسب.

في شخصية منير شفيق، تعثر على الرجل النزيه الصادق المتقشف الذي لا تغريه المكاسب، ولا تنحرف بوصلته، ولا يقبل المساومة على قيمه ومبادئه بحال من الأحوال.

لا أبالغ إذا قلت إن ما أعرفه عن الرجل وسيرته وفكره يفوق بكثير ما هو مدوّن في الكتاب، وأظن أن تواضعه لم يسمح له بقول كل شيء، لكنه يظل كتابا مميزا عن سيرة مناضل ومفكر من طراز رفيع؛ كان كذلك في كل محطات حياته، ولم يغيّر ولم يبدّل.

من يقرأ الكتاب سيجد نفسه أمام سيرة حيّة لمناضل مبدئي وصلب، ولكن من خلال رحلة مشوّقة عمرها 7 عقود كاملة، وفيها من التفاصيل الكثير من التشويق، لكنها كما قلت تبقى قليلة في سياق التعرّف على الرجل، بخاصة في شخصية المفكر التي يمكن التعرّف عليها من خلال كتبه وأبحاثه ومقالاته، كما أشرنا من قبل.

وفي هذا السياق تحديدا، برز اسم الأستاذ منير خلال الأسابيع الأخيرة إثر مقابلتي المفكر المعروف (وائل حلاق) في "الجزيرة"، فقد جادلت عددا من الأصدقاء في أن تنظيرات الأخير بشأن النموذج الإسلامي في الحكم، والفارق بينه وبين نموذج الدولة الحديثة، بجانب نقده للأخيرة، قد سبقه إليها منير شفيق منذ عقود، كما في كتبه "الإسلام في معركة الحضارة"، و"الإسلام ومواجهة الدولة الحديثة"، و"العلمانية والديمقراطية في الغرب.. رؤية إسلامية"، وكتب وأبحاث ومقالات أخرى كثيرة.

ثمة جانب مهم في الكتاب، هو أن القارئ؛ ومن خلال سيرة منير شفيق، سيتعرف على نبذة مهمة عن الحزب الشيوعي وجدالاته ومواقفه، ثم (وهو الأهم) عن تحوّلات الحركة الوطنية الفلسطينية، بخاصة حركة فتح، من البدايات المشرقة قبل وبعد "الكرامة"، إلى بداية التنازلات (مشروع النقاط العشر)، وصولا إلى السقوط في "أوسلو" وما بعده، وستعرف الكثير عن القوى الأخرى بطبيعة الحال. أي أنك أمام سيرة تؤرّخ ضمنا للحركة الوطنية الفلسطينية وتحوّلاتها، ولكن من خلال نظرة موضوعية تتجاوز منهجية الشخصنة وتصفية الحسابات التي تسم كثيرا من كتب المذكرات والسيرة الذاتية.

والحق أن منير شفيق الذي عرفته لم يكن يوما منحازا للقضايا الشخصية، ولم يكن يتورّط في تتبع عورات أحد أو الثأر من أحد، بقدر ما كان يركّز على المواقف الخاصة بالقضية الوطنية.

ليست هذه السطور مراجعة للكتاب الذي سيجد فيه القارئ الكثير والكثير من السلاسة وثراء المعلومات، بقدر ما هي حديث أقرب للشخصي عن أستاذ كبير وصديق رائع، تعلّمت منه الكثير؛ إن في ميدان السياسة والتحليل، أم الفكر، أم الجوانب الأخلاقية، وهي الأكثر أهمية في حياة البشر على كل حال، سواءً كانوا مناضلين أم مفكرين أم أناسا عاديين.