العدد 1433 / 21-10-2020
إعداد / الشيخ جمال الدين شبيب

الرحمة صفةٌ إلهية، نعَتَ الله بها نفسَه في مواضعَ من كتابه، فهو سبحانه رحمن رؤوف، غفور رحيم؛ بل أرحم الراحمين، وأخبر سبحانه عن نفسه بأنه واسع الرحمة، وأن رحمته وسعتْ كل شيء، وأنه خير الراحمين، وبالناس رءوف رحيم.

إن من أعظم النعم التي حظيتْ بها البشريةُ من ربِّها إرساله (سبحانه وتعالى) نبي الرحمة والهدى محمدٍ بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم) يقول سبحانه مبيناً هذه النعمة، وممتنّاً على عباده بها: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) فما من مخلوقٍ على هذه الأرض إلا وقد نال حظًّاً من هذه الرحمة المهداة… نالها المؤمن بهداية الله له، وأُعطِيها غير المسلم بتأخير العذاب عنه في الدنيا، وحصَّلها المنافق بالأمن من العقاب، وجريان أحكام الإسلام في الدنيا عليه؛ فجميع الخلق قد سعدوا برسالته صلى الله عليه وسلم.

تمثَّل نبي الهدى محمد صلى الله عليه وسلم الرحمةَ في أكمل صُوَرها، وأعظم معانيها، ومظاهر رحمته صلى الله عليه وسلم حفلتْ بها سِيرتُه، وامتلأت بها شريعتُه… فرحِم الصغيرَ والكبير، والقريب والبعيد، والعدو والصديق؛ بل شملت رحمته الحيوانَ والجماد، وما من سبيلٍ يوصل إلى رحمة الله، إلا جلاَّه لأمَّته، وحضَّهم على سلوكه، وما من طريق يبعد عن رحمة الله إلا زجرهم عنها، وحذَّرهم منها؛ كل ذلك رحمةً بهم وشفقة عليهم.

وأسعد من حظي برحمته صلى الله عليه وسلم هم آل بيته وصحابته رضي الله عنهم، فامتلأ قلبُه صلى الله عليه وسلم رحمةً بهم، وعطفاً عليهم، ولطفاً بهم، حتى شهد له ربه بقوله: (بِالْمُؤْمِنِينَ رؤوف رَحِيمٌ)، وبقوله: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ).

وأمَّته صلى الله عليه وسلم لم يَنسهم نبيُّ الرحمة من العطف والشفقة والرأفة، فقد كان همُّه صلى الله عليه وسلم: كما يردد كثيراً (أمتي أمتي)، وكان دائماً ما يقول: (لولا أن أشقَّ على أمتي).

.. ومن رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته أنه كان يترك أحياناً بعض السنن والمستحبات والأعمال الصالحات، وقلبُه معلَّقٌ بها، ما يتركها إلا خشيةَ أن تُفرَض على أمته، فلا يطيقونها، تقول أم المؤمنين عائشةُ رضي الله عنها الخبيرةُ بأموره: (إنْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيدعُ العمل وهو يحب أن يعمل به، خشية أن يعمل به الناس، فيُفرض عليهم)

كانت الصلاة منتهى راحة النبي صلى الله عليه وسلم وغاية أُنسه، جُعلت قرَّة عينه في الصلاة، ومستراح قلبه ونفسه حينما يقف فيها بين يدي ربه، كان يحب إطالتَها، وكثرة المناجاة فيها، كان عليه الصلاة والسلام يدخل الصلاة وهو يريد إطالتها، فيسمع بكاء الصبي، فيتجوَّز في صلاته؛ رحمةً ورأفة بأمِّه؛ لما يعلم من شدة وجْدها عليه…

أمَّا رأفته وتلطُّفه صلى الله عليه وسلم مع الصغار والأولاد، فقد ضرب أروع الأمثلة لِمَن بعده، وما عرَفتِ البشرية أحداً أرأف بهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال عنه خادمُه، والخبير بمدخله ومخرجه، أنسُ بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم). ورآه رجل يقبِّل الحسنَ بن علي رضي الله عنهما، فقال في جفاء: (إن لي عشرة من الولد، ما قبَّلتُ واحداً منهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنه مَن لا يَرحم لا يُرحم)…

بل إن رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال لم تفارقه حتى وهو في عبادته، صلَّى مرة بأصحابه وهو حاملٌ أمامةَ بنت زينب، فإذا قام حملها، وإذا سجد وضعها… صلى بأصحابه يوماً، فلما سجد، جاء الحسن أو الحسين فامتطى ظهره، فأطال السجود جدًّاً، حتى إن أحد الصحابة رفع رأسه من السجود؛ قلقًاً على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته، سأله الناس عن هذه السجدة الطويلة، فقال: (إن ابني هذا إرتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته)..

كان عليه الصلاة والسلام ينكسر قلبه على اليتامى والأرامل والضعفة والمساكين، وكان دائماً ما يُوصِي بهم، وبالعناية بشؤونهم، فقال: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة، وأشار بالسبابة والوسطى). وقال أيضاً: (الساعي على الأرملة والمسكين، كالمجاهد في سبيل الله)، يقول سهل بن حنيف رضي الله عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويَعُود مرضاهم، ويشهد جنائزهم).

أما رحمته ورأفته بالنساء عليه الصلاة والسلام، فله معهن شأن وأي شأن، فأوصى أمَّته بالإحسان إليهن، فقال: (استوصوا بالنساء خيراً).

أمَّا مع أهله صلى الله عليه وسلم، فكان عطوفاً عليهم، خدوماً لهم، كان يكفي أهلَه بعضَ العمل، فكان يحلب الشاة، ويخيط الثوب، ويخصف النعل، ويخدم نفسه، وكان يقول: (خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي)…

هذه الرحمة المهداة شمِلتْ حتى العُصَاةَ والمقصرين ومَن وقعوا في الكبائر، كان يعالج أخطاء المذنبين بألين كلمة، وأرأف عبارة، ويسديهم من النصائح التي ملؤها الرحمةُ والشفقة، يغضُّ الطرف عن زلاَّت المخطئين وهفواتهم، حريصاً على الستر عليهم..

يأتي إليه ماعز بن مالك الأسلمي، فيعترف له بالزنا، فيقول له: (لعلك قبَّلتَ، أو غمزت، أو نظرت)، وتأتي إليه امرأة فتقرّ له بالزنا، فيُعرض عنها كأن لم يسمع كلامها. وقال لأصحابه يوماً: (اجتنبوا هذه القاذورات التي نهى الله عنها، فمَن ألمَّ بشيء منها، فليستتر بستر الله عز وجل، وليتبْ إلى الله تعالى، فإنه مَن يُبدِ لنا صفحته نُقِم عليه كتاب الله تعالى)

وها هو رسول الرحمة صلى الله عليه وسلم عامَ فتح مكة يُقابِل أعداءه الذين طردوه وحارَبوه واتهموه في عقله، يُقابِلهم بالرحمة العظيمة التي مُلِئ بها قلبه، فيقول: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)، وسمَّى ذلك اليوم بيوم المرحمة… بل إن صاحب هذا القلب الرحيم، والنفس المشفقة كان يستوصي بالمشركين خيراً إذا وقعوا أُسارى بيد المسلمين .

لقد كانت حياة نبي الهدى صلى لله عليه وسلم رحمة للبشرية جمعاء، فكانت تلك الرحمة ماثِلَةً في حياته كلها؛ في وقت الضعف والقوَّة، وإبان المنشط والمكره، ولجميع فئات الناس، فكان بذلك رحمة من الرحمن يرحم الله بها عباده، وصدق الله العظيم:(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).