العدد 1375 / 28-8-2019

*في قافلة الشهداء**سيد قطب.. محمد هواش ... عبد الفتاح اسماعيل**إبراهيم منير – نائب المرشد العام*

يأتي يوم 29 آب بذكرياته الأليمة مع رفع الراية السوداء على سجن الإستئناف وسط العاصمة المصرية القاهرة كتقليد قديم يصاحب إعدام إنسان من المفترض أن يكون قد خالف القانون بانتهاك حرمة الدماء أو خيانة بلده وبيع أسرارها لعدوها، أو قام بعمل تخريبي يمس المال والممتلكات...

ومن المفترض ان تأتي الإشارة السوداء بعد تحقيق نزيه ومحاكمة عادلة القضاء فيها مستقل، وسماع لشهود بدون إكراه بعد أدائهم القسم بقول الحق، وكفالة دفاع حر يمثل كفة العدالة الثانية في إجراءات تقاضي متعارف عليها يخضع لنزاهتها الجميع .. وعندها يأتي الحكم البات بما يستقر عليه ضمير القاضي بعد استيفاء كافة اجراءات محاكمة عادلة.

في هذا اليوم وفي عام 1966 , لم يأت رفع الراية السوداء لحظة إعدام الشهداء .. سيد قطب ويوسف هواش وعبد الفتاح اسماعيل احتراما لجلال مقتل ثلاث من الدعاة إلى الله بل جاء تكريسا لوفاة منظومة العدالة التي سقطت في عهد حكم العسكر بمحاكمهم العسكرية، سقطت معها كل معاني الشهامة والإنسانية والمثل الأخلاقية التي تردت في نفوس فراعنة مصر في عهدها وفي نفوس اشياعهم وجنودهم وممن ينادون بشعارات ليبرالية وعلمانية الحضارات الجديدة في الداخل والخارج، وهم شهود على إجراءات محكمة كل قضاتها عسكريون لا يملكون من أمرهم شيئا يفعلون ما يأمرم به كبيرهم... ويقرأون الاحكامم كما كتبوها لهم دون أن تشغلهم اتباع إجراءات التقاضي العادية... فلم يأخذ المتهمون حقهم في الرد على ما وجهوه إليهم من إدعاءات... ولم يقدم الإدعاء في جلسات المحكمة التي كانت تذاع على الهواء ما يثبت أن الدعاة خلف القضبان وعلى رأسهم الشهداء الثلاثة السيد قطب... محمد يوسف هواش... عبد الفتاح إسماعيل قد سفكوا دما حراما أو خانوا بلدهم أو باعوا اسرارها للعدو أو قاموا بعمل تخريبي.

وبعد أن مر على الحدث ما يزيد على نصف قرن، وذهب كل الفاعلين فيها تقريبا من قضاة عسكريين ورئيسهم إلى قبورهم، وارتقت أرواح الشهداء الثلاثة إلى بارئها، يعود الحدث ليتكرر مرة أخرى في العهد العسكري الجديد (2013) مع تهليل وتصفيق ورقص من نفس القوى التي تدعي الليبرالية والعلمانية وغيرها ، ليبرز سؤال غريب يقول أية انتكاسه أو ردة عن الإخلاق هي الأسوأ ... أهي جاهلية قريش قبل الإسلام أم ردة البشرية إلى أسوأ الدركات في ظل حكم عسكر مصر.

يحكي التاريخ أن ابا سفيان كبير كفار قريش قبل إسلامه وقف أمام هرقل عظيم الروم يجاوب على أسئلته عندما أراد ان يتعرف عن ماهية الرسول صلى الله عليه وسلم وماهية رسالته، فالتزم أبو سفيان الصدق كسجية من سجايا قومه لا ينكص عنها إلا لئيم، فيأبي رغم خصومته للرسول وللرسالة وقتها أن يقول الكذب، فيأخذ عليه العرب ذلك .. ففي حوار طويل سأله فيه هرقل ... ماذا يأمركم؟

فأجاب أبو سفيان ( يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوه به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم ،،، ثم يضيف .. ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف.

وفي أجواء ذكرى هذه الكوكية من الشهداء اللذين لا نبكي فيها على ارتقائهم، فنحن لسنا في مجال لطيمة، نبكي فيها على مارزقهم الله من الشهادة... ولكننا في مجال تذكرة ووقفة مع أفراح الروح التي قال فيها الشهيد " إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحباة " ....

1-الشهيد سيد قطب

ستون عاما قضاها في هذه الدنيا منذ أن صرخ صرخته الأولى عندما خرج من بطن أمه وهم يلفون جسده بلفافات بسيطة هي أول غطاء له في حياته .. إلى أن نطق بالشهادتين والجلادون يلفون حول رقبته حبل المشنقة ليلقى ربه شهيدا – إن شاء الله – وليغادر هذه الدنيا كما جاءها لا يحمل من متاعها سوى ملابس الإعدام الخشنة البسيطة، حياة غريبة نادرة، غرابة مسيرة صاحبها وندرته في هذه الدنيا، فقد عاش منها خمسا وأربعين عاما تقريبا، أصبح بعدها ناقدا أدبيا متميزا وكاتبا لا يختلف حول قيمته اثنان، لا مواجهة له فيها مع أحد خارج نفسه مواجهة تؤدي به إلى حبل المشنقة، إلا ما اعتاده الناس من خلافات في الرأي تعنف أحيانا وتشتد، وتأتي ناعمة هادئة أحيانا أخرى ... حتى إذا بلغ أشده وتجاوز هذا العمر، واكتمل عقله وانصقلت تجربته .. ثم ومع بدايات تمكن المرض من جسده، بدأ ميلاد جديد مع بداية انتمائه إلى جماعة الإخوان المسلمين عام (1951م – 1371هـ) .. يهب لله فيها ما بقى من عمره خالصا لتكون "خمسة عشر عاما" (1951-1966) .. قضى منها أحد عشر عاما في السجن، وبقيت أربعة فقط منها عاشها خارج الأسوار .. ليودع هذه الدنيا.

وقد عاداه كثيرون، وتحالف في سبيل هذا العداء الشرق والغرب والأنظمة التي أعرضت عن شرع الله، ومعها القوى السياسية التي هزّها أن تتعرى أفكارها ومناهجها بفعل كلماته ومنهجه وسلوكه واستعلائه بإيمانه على كل ما تيقن أنه باطل، هذا العداء أو الخصومه – بفعل الموجة العاتية التي هبت على الرجل وفكره – ودون تيقن وتمحيص .. لتصعد روحه إلى خالقها – عز وجل – وهو في زنزانة رطبة ضيقة ظن الفاعلون الآثمون وقتها أنهم قد أنهوا حياة "سيد قطب" نيابة عن كل باطل في الدنيا، وما قدروا أن لحظة إعدامه بين جدران أربعة صلدة صماء معتمة كانت إيذانا من الله – عز وجل – بميلاد حياة جديدة للشهيد، وانبعاث طاقة ربانية هائلة لفكره وكتبه وسيرة حياته ما قدروها حق قدرها، غطت الأرض كلها من مشرقها إلى مغربها وبلغات عديدة دفعت البشرية كلها إلى الاطلاع عليها والتزود منها، ليبقى "سيد قطب إبراهيم" حيا نافعا فاعلا بين الناس إلى ما شاء الله، وتبقى جماعته التي أعطاها فكره وعمله وحياته شاهدة على سمو العطاء، ليتذكر الناس – من يريد منهم أن يتذكر – أن الله بالغ أمره .. ولتصدق كلماته التي قالها في حياته دون أن يدري ما هو قدر الله فيه: (إن كلماتنا عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح، وكتبت لها الحياة).

نحن في جماعة الإخوان المسلمين أصحاب سيد قطب وإخوانه وتلاميذه لا نرى فيه قداسة ولا عصمة تماما كما لم نرهما في إمامه حسن البنا، ولا في الذين جاؤوا من بعده، وإن كنا نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله ورحمته أن يرزقهم أجر الشهداء ويلحقنا بهم في الصالحين، ونشهد شهادة نلقى بها الله – عز وجل – بما علمناه عنهم، أنهم قد بلَّغوا وأدوا وجاهدوا وجادوا بدنياهم في سبيل دعوتهم وفي سبيل ما اعتقدوا أنه الحق، ولا نملك ولا يملك بشر أن يوفى عباد الله هؤلاء أجرهم الذي نرجوه لهم خالصا من الله عز وجل.

وحين نكتب عنهم فإننا نكتب للأجيال التي تأتي من بعدنا ولم تعاصرهم، لنعيد تذكير الناس ببشر مثلنا ليسوا بأنبياء ولا رسل ولكنهم جاهدوا وأدوا وكانوا أوفياء لدينهم، ثم مضوا إلى آخرتهم التي قدرها الله لهم كما سيمضي كل بني آدم (إنك ميت وإنهم ميتون) (الزمر: 30)، ولتبقى المقارنة للناس قائمة، بين من أصبحوا تحت التراب فاعلين، ومن هم فوقه غافلين، لعلها تكون دافعا وحافزا لمن له قلب وبصيرة ليختار الطريق، حرصا على ما بعد الحياة الفانية حيث الخلود فلا موت، والجنة التي لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، وأكبر من كل ذلك وأسمى وأعز .. رضوان الله ذو الجلال والإكرام فلا سخط بعدها أبدا.

غرابة حياة شهيدنا سيد قطب أنه وُلد في بيئة متدينة كما وُلد الكثير من الناس، ونشأ قريبا من القرآن الكريم كغيره من جيله حيث كان اهتمام الآباء والأمهات في هذه الفترة متميزا حريصا على أن يحفظ الصبيان والفتيات ما استطاعوا من سور القرآن الكريم، ثم سارت حياته أيضا كغيره من طالبي العلم سعيا إلى طلب الرزق الحلال وإلى الإسهام الجاد في الحياة، ولكنه لم يُدر ظهره لأصوله الأولى وظل قريبا منها مستمسكا بها، حتى إذا رَشَدَ واستوى عوده وتميز في علمه وفكره، رآه الناس ورأته (العيون الراصدة) طرازا جديدا من الإسلاميين.