العدد 1451 /3-3-2021

قطب العربي

جمعتني مع لفيف من المثقفين والنشطاء غرفة عزاء وتأبين لفقيد الأمة المستشار طارق البشري عبر تطبيق "Clubhouse"، كان لافتا تنوع المشاركين بين كل التيارات السياسية المصرية والعربية، وقد سبق ذلك ولحقه أيضا طيف واسع من تعليقات العزاء على صفحات التواصل الاجتماعي الأخرى، وهو ما يعني نجاة الفقيد من فتنة الاستقطاب السياسي التي وقع في أسرها الكثيرون بمن فيهم بعض القامات الفكرية والقانونية.. الخ.

لم يكن طارق البشري ناشطا ثوريا، ولا زعيما سياسيا، بل كان رجل قانون بالأساس دلف إلى عالم الثقافة والفكر فأثرى الفكر الإنساني بالعديد من الكتابات والاجتهادات، لكن عالم الفكر لم يمنعه من الاشتباك الرزين مع هموم شعبه، ورغبته في التغيير، فكان العراب لفكرة العصيان المدني التي هي جزء أصيل في أي حراك ثوري. صحيح أن الفكرة ظهرت على السطح قبل أن يتحدث عنها البشري، لكنها كانت تفتقد إلى التأصيل العميق المناسب للحالة المصرية، وهو ما قدمه البشري في دراسة مطولة نشرها بصحيفة العربي الناصري بعنوان "أدعوكم إلى العصيان" منتصف العقد الأول للألفية الثانية؛ بينما كانت مصر تمور بنقاشات ساخنة حول تعديلات دستورية طرحها مبارك استجابة لضغوط داخلية وخارجية.

كان البشري يرى أن تلك التعديلات الدستورية - حتى وإن شملت فتح الترشح المشروط أمام منافسين متعددين - هي مجرد ترقيعات للإبقاء على جوهر النظام، وأنه لا بديل من حراك جماهيري يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح. وكمساهمة منه في توجيه البوصلة فإنه قدم مشروعه للعصيان المدني الذي قدر أنه "أت لا محالة سواء شئنا أم أبينا" وفقا لتعبيره، ووجه دعوته للعصيان إلى أصحاب المصلحة "الذين يريدون ويسعون إلى أن يردوا الدولة إلى صائب معناها وإلى وظائفها الحقيقية؛ بأن تعود ممثلة للجماعة الوطنية ترعى الشأن العام للمواطن والشعب". ولأنه يعرف أن السلطة لن تتسامح مع أي عصيان مهما كان سلميا، وأنها ستستخدم أدوات القمع التي بحوزتها، فإنه نصح بضبط النفس وعدم مواجهة العنف بعنف مضاد، "والأمر يقتضى من أصحاب الحركة الشعبية قدرا كبيرا من ضبط النفس ومن الاحتمال ومن الاستعداد لتقبل العنف دون رد عليه؛ إلا بالتصميم على الحركة وعلى استبقائها مستمرة وعلى استبقائها غير عنيفة، وأن يكون تحمل عنف الدولة دون رد عليه مع الاستمرار في الحركة السلمية غير العنيفة، أن يكون ذلك هو التكلفة والنفقة التي تؤدى لله وللوطن من أجل الخروج من الطريق المسدود الذى يظهر أنه لا خروج منه إلا بالحركة".

لم يكتف البشري بكتابة ذلك المقال، بل إنه أصدر عام 2006 كتابا كاملا "مصر بين العصيان والتفكك". وقد كان لهذا الجهد التأصيلي من البشري دور كبير في شحذ الهمم، حيث شهدت مصر في تلك الفترة حراكا سياسيا واسعا مع ظهور حركة كفاية التي كان شعارها "لا للتوريث لا للتمديد" وتحركات نادي القضاة، ومظاهرات طلابية واعتصامات عمالية، وسلسلة حوارات وطنية قادها عزيز صدقي، رئيس وزراء مصر الأسبق، وصولا إلى تشكيل الجمعية الوطنية للتغيير.

كانت كتابات البشري من مشاعل ثورة يناير، رغم أن الرجل ينتمي لفئة القضاء، وهي فئة محافظة وغير ثورية بطبيعتها بشكل عام. وحين تم خلع مبارك، وقرر المجلس العسكري وقف العمل بدستوره (دستور 1971) لم يجد فقيها دستوريا أكثر قبولا من غالبية الثوار من المستشار البشري ليرأس لجنة لتعديل ذلك الدستور بما يواكب الثورة، وبما يضع خارطة طريق دستورية للفترة الانتقالية تفتح الباب بشكل عاجل أمام منافسة حقيقية على منصب رئاسة الجمهورية. وقد تعامل البشري ولجنته بمنتهى المهنية في تلك التعديلات التي تعلقت بثماني مواد في الدستور؛ كلها تتعلق بشروط الترشح وضمانات النزاهة، والترتيب لدستور جديد (أصدر المجلس العسكري إعلانا دستوريا تضمن تلك المواد ضمن 62 مادة).

ورغم أن بعض القوى السياسية المتطرفة سعت لاتهام البشري ولجنته بمحاباة الإخوان، إلا أن البشري رفض هذا الاتهام بشدة، وقد استند المتهمون لوجود شخصية إخوانية هو المحامي صبحي صالح ضمن لجنة التعديلات، لكن ذلك لم يكن قرار البشري بل قرار المجلس العسكري الذي لم يكن يرى قوة منظمة في تلك الفترة سوى الإخوان. كما أن التعديلات لم تمنح الإخوان أي ميزة تفضيلية، بل انصبت على شروط وضمانات النزاهة والمنافسة الانتخابية للجميع، والتي وفرت البيئة المناسبة لترشح 13 مرشحا يمثلون كل الأطياف السياسية في أول انتخابات رئاسية شهدتها مصر.

اعتذر البشري عن دعوة الإخوان المسلمين له بالترشح لرئاسة الجمهورية كمرشح توافقي، لأنه كان يرى مكانه الطبيعي في المجال الفكري، ولكنه ظل راصدا لتطورات الحراك الثوري وما تبعه من العمل السياسي والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأداء القوى السياسية المختلفة وعلى رأسها القوة الأكبر وهي جماعة الإخوان، ولم يتوان عن توجيه النصح والنقد للإخوان أو غيرهم، انطلاقا من غيرته على الثورة، ورغبته في أن تعبر إلى شاطئ الأمان، وسجل الكثير من ملاحظاته ونصائحه وتقديراته في كتاب أصدره عام 2014 بعنوان "ثورة يناير والصراع حول السلطة".

وحين وقع الانقلاب العسكري في تموز/ يوليو 2013 لم يتأخر البشري في إعلان موقفه الرافض لهذا الانقلاب بشكل صريح، سواء في حديث تلفزيوني لقناة الجزيرة في اللحظات الأولى لوقوع الانقلاب، أو عبر مقال له في صحفة الشروق المصرية بتاريخ 30 تموز/ يوليو 2013 بعنوان "الصراع القائم الآن هو بين الديمقراطية والحكم والانقلاب العسكري وليس بين الإخوان ومعارضيهم".

وكان مما تضمنه ذلك المقال: "نحن الآن لسنا إزاء معركة بين الإخوان المسلمين في السلطة وبين غيرهم من معارضيهم، لأن هذه المعركة كانت يمكن أن تحسم في ظل دستور 2012 بانتخابات مجلس النواب وما يفضى إليه من تشكيل وزاري يعكس حكم التأييد الشعبي الصحيح لكل فريق من الفرقاء المتصارعين، وهو ما كان من شأنه دستوريا أن يقيد سلطات رئيس الجمهورية وفقا لنتيجة الانتخابات، ولكننا إزاء معركة تتعلق بالديمقراطية وبالدستور، وهو ما انتكس بفعل قيادة القوات المسلحة في الانقلاب الذى حدث أخيرا. واستغلت هذه القيادة رصيدا شعبيا معارضا للإخوان المسلمين لتسوقهم جميعا إلى تأييدها فى معركة القضاء على روح ثورة 25 يناير 2011 والديمقراطية الدستورية، ولتعود بنا إلى الوراء وإلى نظام حكم استبدادي غاشم".

رحم الله طارق البشري وأسكنه فسيح جناته.