إن في بذل العلماء والدعاة والمصلحين أنفسهم في سبيل الله حياة للناس، إذا علموا صدقهم وإخلاصهم لله عزّ وجل. ومن هؤلاء الدعاة والمفكرين «سيد قطب» رحمه الله، فقد كان لمقتله أثر بالغ في نفوس من عرفوه وعلموا صدقه، ومنهم اثنان من الجنود الذين كلّفوا بحراسته وحضروا إعدامه.
يروي أحدهما القصة فيقول:
هناك أشياء لم نكن نتصورها هي التي أدخلت التغيير الكلي على حياتنا.. في السجن الحربي كنا نستقبل كل ليلة أفراداً أو جماعات من الشيوخ والشبان والنساء، ويقال لنا: هؤلاء من الخونة الذين يتعاونون مع اليهود ولا بدّ من استخلاص أسرارهم، ولا سبيل إلى ذلك إلا بأشد العذاب، وكان ذلك كافياً لتمزيق لحومهم بأنواع السياط والعصي، كنا نفعل ذلك ونحن موقنون أننا نؤدي واجباً مقدساً، إلا أننا ما لبثنا أن وجدنا أنفسنا أمام أشياء لم نستطع لها تفسيراً، لقد رأينا هؤلاء «الخونة» مواظبين على الصلاة أثناء الليل وتكاد ألسنتهم لا تفتر عن ذكر الله، حتى عند البلاء!
بل إن بعضهم كان يموت تحت وقع السياط، أو أثناء هجوم الكلاب الضارية عليهم، وهم مبتسمون ومستمرون على الذكر. ومن هنا.. بدأ الشك يتسرب إلى نفوسنا.. فلا يعقل أن يكون مثل هؤلاء المؤمنين الذاكرين من الخائنين المتعاملين مع أعداء الله.
واتفقت أنا وأخي هذا سراً على أن نتجنب إيذاءهم ما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، وأن نقدم لهم كل ما نستطيع من العون ومن فضل الله علينا أن وجودنا في ذلك السجن لم يستمر طويلاً.. وكان آخر ما كلِّفنا به من عمل هو حراسة الزنزانة التي أفرد فيها أحدهم، وقد وصفوه لنا بأنه أخطرهم جميعاً، أو أنه رأسهم المفكر وقائدهم المدبّر (هو سيد قطب رحمه الله).
وكان قد بلغ به التعذيب إلى حد لم يعد قادراً معه على النهوض، فكانوا يحملونه إلى المحكمة العسكرية التي تنظر في قضيته.
ساعة الإعدام
وذات ليلة جاءت الأوامر بإعداده للمشنقة، وأدخلوا عليه أحد الشيوخ!! ليذكره ويعظه!! وفي ساعة مبكرة من الصباح التالي أخذت أنا وأخي بذراعيه نقوده إلى السيارة المغلقة التي سبقنا إليها بعض المحكومين الآخرين.. وخلال لحظات انطلقت بنا إلى مكان الإعدام.. ومن خلفنا بعض السيارات العسكرية تحمل الجنود المدججين بالسلاح للحفاظ عليهم..
وفي لمح البصر أخذ كل جندي مكانه المرسوم محتضناً مسدسه الرشاش، وكان المسؤولون هناك قد هيّأوا كل شئ.. فأقاموا من المشانق مثل عدد المحكومين.. وسيق كل منهم إلى مشنقته المحددة، ثم لف حبلها حول عنقه، وانتصب بجانب كل واحدة «العشماوي» الذي ينتظر الإشارة لإزاحة اللوح من تحت قدمي المحكوم.. ووقف تحت كل راية سوداء الجندي المكلف برفعها لحظة التنفيذ.
كان أهيب ما هنالك تلك الكلمات التي جعل يوجهها كلٌّ من هؤلاء المهيّئين للموت إلى إخوانه، يبشره بالتلاقي في جنة الخلد، مع محمد وأصحابه، ويختم كل منهم عبارة بالصيحة المؤثرة: الله أكبر ولله الحمد.
وفي هذه اللحظات الرهيبة سمعنا هدير سيارة تقترب، ثم لم تلبث أن سكت محركها، وفتحت البوابة المحروسة ليندفع من خلالها ضابط من ذوي الرتب العالية، وهو يصيح بالجلادين: مكانكم!
صمود الداعية
ثم تقدم نحو صاحبنا الذي لم نزل إلى جواره على جانبي المشنقة، وبعد أن أمر الضابط بإزالة الرباط عن عينيه، ورفع الحبل عن عنقه، جعل يكلمه بصوت مرتعش قائلاً:
يا أخي.. يا سيّد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس الحليم الرحيم!!! كلمة واحدة تذيلها بتوقيعك، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء.
ولم ينتظر الجواب، وفتح الكراس الذي بيده وهو يقول: اكتب يا أخي هذه العبارة فقط: «لقد كنت مخطئاً وإني أعتذر...»، ورفع سيد عينيه الصافيتين، وقد غمرت وجهه ابتسامة لا قدرة لنا على وصفها.. وقال للضابط في هدوء عجيب: أبداً.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول!
قال الضابط بلهجة يمازجها الحزن: ولكنه الموت يا سيد...
وأجاب سيّد: «يا مرحباً بالموت في سبيل الله..»، الله أكبر!! هكذا تكون العزة الإيمانية ، ولم يبق مجال للاستمرار في الحوار، فأشار الضابط بوجوب التنفيذ.
ارتقاء الروح
وسرعان ما تأرجح جسد سيّد رحمه الله وإخوانه في الهواء.. وعلى لسان كل منهم الكلمة التي لا نستطيع لها نسياناً، ولم نشعر بمثل وقعها في غير ذلك الموقف، «لا إله إلا الله، محمد رسول الله.. ».