العدد 1493 /29-12-2021

ثمانية وثلاثون عاماً على استشهاد القائد جمال الحبال وإخوانه المقاومين في مدينة صيدا، والدماء ما تزال حرّى والعصف يستمر شديداً ونار الجهاد التي أٌوقدت ما تزال مستعرة، وأهل المدينة ما زالوا يحفظون في قلوبهم وفي حدقات عيونهم تلك الوقائع الخالدة التي رصّعت تاريخ الوطن بأسماء لامعة بذلت دمها وأرواحها في سبيل وضع حد للطغيان الصهيوني، وللمشروع السياسي والأمني الاسرائيلي الذي كان يراد فرضه على الساحة اللبنانية.

في السابع والعشرين من كانون الأول من عام 1983 كانت عمليات قوات الفجر قد وصلت الى ذروتها، بعد ان تحول خريف ذلك العام في أيلول وتشرين أول وتشرين ثاني الى شهر العبوات الناسفة الذي اعترف خلاله الصهاينة بمقتل أكبر عدد من الضباط والجنود الصهاينة خلال احتلالهم لهذه المنطقة من لبنان.

وبلغ الأمر بالصهاينة الى أن حركوا سلاحهم الجوي لقصف أحد المواقع الفلسطينية على جبهة عاليه - سوق الغرب ردا على انفجار عبوة ناسفة قرب مستشفى عسيران في مدينة صيدا.

وقد اعترف اليهود من جراء تلك العملية بمقتل اثنين من العسكريين لم تحدد رتبهم، في حين أفاد المصلون في جامع الامام علي في المدينة الصناعية أنهم شاهدوا آلية عسكرية ترتفع من جراء ذلك الانفجار قبل أن يقع حطامها على الجانب الآخر من الأوتستراد.

وأن بعض فرق الدفاع المدني عاينت جثثا محترقة في قلب تلك الآلية.

وقد أكد سكان تلك المنطقة ان الجنود الصهاينة كانوا يطلعون صيحات استغاثة.

وقد دفعت كثافة تلك العبوات الناسفة الى تكثيف العمل الاستخباري الصهيوني ما أدى الى كشف احد مراكز القيادة التي كان يرتادها القائد الشهيد جمال الحبال في منزل الشهيد محمد علي الشريف الكائن في أحد بساتين منطقة القياعة على طريق النافعة.

فتم حشد قوة عسكرية صهيونية توجهت الى ذلك المنزل بعد منتصف ليل 26-27 كانون الأول بغية إلقاء القبض على "المخربين" الذين أوجعوا الجيش الإسرائيلي في الأشهر الثلاث السابقة وأوقعوا في صفوفه خسائر فادحة.

كان منزل الشهيد الشريف يضم الشهيدين جمال الحبال ومحمود زهرة وزوجة الشهيد الشريف الأخت الفاضلة إم بلال التي كانت كالطود الشامخ في مواجهة المصائب والمصاعب، حيث كان المنزل يحتوي على بعض الأسلحة والذخائر والقنابل اليدوية. وكان القرار حاسماً عند الثلاثة الميامين، بأنهم اذا خيروا بين الأسر والقتال فانهم منحازون حتماً الى الخيار الآخر الذي يوصلهم الى الشهادة العزيزة الغالية على قلوب جميع المجاهدين.

لم يبذل الشهيد الشريف جهداً كبيراً حتى تبين ان الأصوات التي سمعها في عتمة ذلك الليل البهيم تعود للجيش الاسرائيلي الزاحف الى منزله، وان الساعة حانت كي يتخذ الموقف الذي يقربه الى الله ويدنيه من الجنة. وبسرعة هائلة تفاهم مع جمال ومحمود حول ما يجب أن ُيفعل حيث بادر الشهيد محمد علي الشريف الى فتح باب بيته الذي كاد ان يخلع من قبل الصهاينة وعاجلهم بقنبلة يدوية قتلت الضابط المتقدم على الفور وأصابت آخرين.

ونشبت معركة كان فيها محمد علي اول الشهداء, ثم تمكن جمال الحبال ومحمود زهرة من الخروج من المنزل الى البساتين المجاورة ثم الى الطريق العام حيث وجدت لاحقا جثة الشهيد جمال على مقربة من بناية المرسي على بعد مئات الأمتار من منزل الشهيد الشريف ما يؤكد ان مواجهة ضارية نشبت بين المقاومين والقوة الصهيونية التي فوجئت برد الشهيد الشريف ما أفسح في المجال أمام الأخوين جمال ومحمود ان يوسعوا من مسرح المواجهة.

اعترف الصهاينة بمقتل نقيب في الجيش الصهيوني ، وذكرت بعض الصحف ان القوة المهاجمة كانت تنتمي الى لواء غولاني، واحدثت تلك المواجهة زلزالاً أصاب الجيش الصهيوني فكانت ردة الفعل متمثلة بتجريد جملة مداهمات واعتقالات طالت كل الشباب المتدين والملتزم في مدينة صيدا حتى لو لم يكن منظماً في اطار تنظيمي.

وكان الشيخ المجاهد محرم العارفي أبرز المعتقلين بعد أن نجح خلال الأشهر القليلة السابقة في شن حملة تعبوية ضد الاحتلال الصهيوني من خلال منبر مسجد بطاح في مدينة صيدا القديمة وفي عدد من مساجد القرى في جنوب لبنان.

وقد بات أهل المدينة ليلتهم وهم يسمعون أصوات الإنفجارات وازيز الرصاص وتحركات الآليات العسكرية الصهيونية المتوجهة الى مسرح العمليات في القياعة، وقال البعض ان جيش الاحتلال قد لجأ الى استخدام القنابل المضيئة كي تعينه في عمليات البحث والملاحقة.

لقد كان فجر السابع والعشرين من كانون الاول 1983 ساطعاً ومشرقاً بكل أنوار الحرية والعزة والكرامة ومخضباً بدماء الشهداء الأبرار الذين منع الاحتلال تشييعهم من قبل أهاليهم ومن قبل ابناء المدينة. حيث تم دفنهم على عجل من قبل أفراد قلائل تحت نظر الاحتلال و عملائه.

في مقابل كل ذلك كان مفتي صيدا الشيخ الراحل الطيب الذكر محمد سليم جلال الدين يترأس في اليوم التالي اجتماعاً لفعاليات المدينة السياسية والاجتماعية والاقتصادية في منزله، وكان لا بد من التعبير عن موقف المدينة وأهلها الرافض للاحتلال والمؤيد للمقاومة المسلحة، فصدر بيان عن المجتمعين اكد تبني الشهداء وما قاموا به ومندداً بالاحتلال الصهيوني وداعياً الى اعتصام في جامع الزعتري من اجل اقامة صلاة الغائب عن أرواح الشهداء ومن أجل تأكيد رفض الاحتلال وعملائه. ولا بد من الاشارة هنا الى دور الدكتور نبيل الراعي في ذلك الاجتماع حيث كان مقداما وواضحا في موقفه الداعي الى تبني المدينة للشهداء .

بعد هذه المواجهة ببضعة أسابيع صدر قرار عن الحكومة الصهيونية بالانسحاب من لبنان ووضع برنامج زمني لهذا الانسحاب. وكان واضحا أن لعمليات المقاومة في مدينة صيدا إسهام واضح في تشكيل عناصر الضغط التي دفعت الحكومة الصهيونية الى اتخاذ قرار الفرار من لبنان وهكذا كان *﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين ﴾ صدق الله العظيم*