وافق (14 تشرين الثاني) الذكرى الـرابعة لاستشهاد القائد الفلسطيني العسكري والسياسي أحمد الجعبري (قائد أركان المقاومة)، إثر استهدافه في غارة جوية، بينما كان يستقل سيارته مع مرافقه وسط مدينة غزة.
وشهد ذاك اليوم فقدان الشعب الفلسطيني لأحد أبرز قادته العسكريين (أحمد الجعبري 1960- 2012)، الذي كان له الدور البارز في تطوير المقاومة الفلسطينية وأدواتها وقدراتها، وقارع الاحتلال قرابة ثلاثة عقود، تاركاً خلفه جيشاً من المقاومين، الذي خاض معهم ثلاث حروب مع رابع جيش في العالم، كان آخرها صيف 2014.
ولد الجعبري في حيّ الشجاعية (شرقي مدينة غزة) عام 1960، وتعود أصوله لمدينة الخليل (جنوب القدس المحتلة)، وحصل على درجة البكالوريوس في التاريخ من الجامعة الإسلامية في القطاع.
تعرض للاعتقال الأول من قبل قوات الاحتلال عام 1982، وكان يبلغ من العمر حينها 18 عاماً، بتهمة المشاركة في خلية مسلحة تابعة لحركة «فتح» ومقاومة الاحتلال، وأمضى 13 عاماً قضاها في سجون الاحتلال (1982- 1995).
وخلال مكوثه في سجون الاحتلال، قرر الجعبري الانتقال تحت كنف الحركة الإسلامية التي كانت في بداية ظهورها؛ حيث عانى كثيراً قبل أن تسمح له حركة «فتح» بالانضمام إليها برفقة ستة آخرين من كوادرها، وذلك بعد أن التقى بالشيخ صلاح شحادة القائد العام لكتائب القسام (اغتيل في صيف 2002).
انتقال الجعبري إلى صفوف «الحركة الإسلامية» داخل سجون الاحتلال، شكّل مرحلة جديدة في حياته، وساهم في صقل شخصيته ولا سيما بعد معايشته معظم قادة الحركة التاريخيين.
ووفقاً لعدد من رفاق الشهيد الجعبري ومن التقوه في سجون الاحتلال، فقد كان يتمتع بشخصية قوية وفكر واسع وشامل للإسلام وللقضية الفلسطينية، وكان يجيد اللغة العبرية بطلاقة، وصاحب علاقات واسعة مع كافة التنظيمات والفصائل الفلسطينية.
كرّس الجعبري وقته خلال اعتقاله في السجون الإسرائيلية في السنوات التسعة الأولى من اعتقاله للاطلاع وخدمة المعتقلين، وقاد معهم عدداً من الإضرابات التي انتزعوا فيها الكثير من الإنجازات، وامتاز بمواقفه القوية والحازمة.
كان لانتقال الجعبري عام 1992 إلى سجن النقب الكبير أهمية كبرى في حياته، لا سيما أنه يلتقي في هذا السجن بمئات المعتقلين يومياً، الذين كانوا ينتقلون بين خيامهم بخلاف السجون المركزية.
وقال أحد الذين التقوا الجعبري في سجن النقب: «عمل هذا الرجل برفقة عدد من قادة حماس الذين تواجدوا في ذات السجن؛ ومن بينهم إبراهيم المقادمة (اغتيل في ربيع 2003) على تأهيل عناصر الحركة للانضمام إلى الأجهزة المختلفة فيها بعد خروجهم، ولا سيما الجهاز العسكري».
وأشار إلى أن الاحتلال رفض الإفراج عن الجعبري عام 1994 (صفقة تمت بين تل أبيب والسلطة الفلسطينية بعد توقيع اتفاقية أوسلو، شرط أن يوقع المعتقل على تعهد بعد الإفراج عنه بعدم ممارسة المقاومة والالتزام بالاتفاقيات). ولفت إلى أن «الجعبري رفض التوقيع مقابل الإفراج عنه، وقال آنذاك أمضيت في السجن 11 عاماً وسأكمل العامين الباقيين لي ولا يقال لي يوماً إن اتفاقية أوسلو هي التي أخرجتك من المعتقل».
بعد الإفراج عنه عام 1995، ساهم الجعبري في بناء كتائب القسام (الذراع العسكرية لحركة حماس) برفقة القائدين صلاح شحادة (استشهد عام 2002) ومحمد الضيف (القائد العام حالياً للقسام). وكان قد وعد رفاقه الأسرى في سجون الاحتلال قبيل الإفراج عنه وهو يودّعهم أنه سيبذل كل ما في وسعه من أجل إطلاق سراحهم.
حقق الجزء الأكبر من وعده في حزيران 2006، عندما تمكنت كتائب القسام وفصيلان آخران من أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في عملية فدائية نفذت داخل أحد المواقع العسكرية التابعة للاحتلال جنوب قطاع غزة.
تعرض للاعتقال مرة أخرى، وكانت هذه المرة من قبل أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في قطاع غزة عام 1998، وصدر بحقه حكم بالسجن مدة عامين لعلاقته بـ «كتائب القسام».
كانت المحاولة الأولى لاغتياله في الـ 7 آب 2004، حيث أصيب بجراح وارتقى نجله البكر «محمد» شهيداً وعدد من أقاربه إثر قصف إسرائيلي استهدف منزله بغزة.
بقي الجعبري بعيداً عن وسائل الإعلام، حيث ظهر في برنامج وثائقي واحد وتحدث عن الجهاز العسكري لحركة «حماس»، إلا أنه بعد ذلك لم يصدر عنه أي تصريح، وتوارى عن الأنظار بالكامل.
كثر الحديث عنه بعد اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في 25 حزيران 2006، وبدأت المصادر الإسرائيلية تحمّله المسؤولية عن ذلك دون أن يظهر القائد الفلسطيني في أي مكان أو يصدر عنه أي تصريح.
وتحدثت الدولة العبرية عن أنها أخفقت خلال الحرب الأولى على غزة (2008-2009) في تصفية الجعبري، وذلك على الرغم من رصده في أكثر من مكان حسب ادعائها، وأنها على يقين أنه كان الرجل الوحيد الذي يتحكم بمصير شاليط.
وقاد الجعبري المفاوضات غير المباشرة حول شاليط، وكان حاسماً في ذلك، ويدرك طبيعة القائمة التي وضعها للأسرى الذين من المقرر أن يفرج عنهم، حيث تشمل أسرى قدامى وعدد من قادة الفصائل والنساء والأطفال والمرضى.
وحسب مراقبين فإن «حماس» تمكنت خلال مفاوضاتها غير المباشرة أن تفرض شروطها على الدولة العبرية وتكسر الكثير من المعايير، لما تمتع به المفاوض من خبرة وصبر كبيرين.
عُرف الجعبري كـ «قائد سياسي وعسكري»، ونسبت إليه الدولة العبرية لقب «رئيس أركان حماس»، وكان على رأس فريق المقاومة للتفاوض حول مصير الجندي الإسرائيلي «جلعاد شاليط»، وهندَس صفقة وفاء الأحرار (أواخر عام 2011 وأفرج خلالها عن 1027 أسيراً فلسطينياً من سجون الاحتلال).
استشهد القائد الجعبري مساء يوم 14 تشرين الثاني عام 2012 بغارة جوية لقوات الاحتلال استهدفت سيارته في أحد شوارع مدينة غزة، وذلك بعد اسبوع من عودته من مكة المكرمة حيث أدى مناسك الحج. ولكن من تركهم خلفه من المقاومين ما صبروا إلا ساعات قليلة قبل أن يدكوا تل أبيب (وسط فلسطين المحتلة) والقدس المحتلة بالصواريخ لأول مرة في تاريخ الصراع، أعقبتها معركة «حجارة السجيل» (استمرت ثمانية أيام)، وفرض خلالها «جنود الجعبري» معادلة القوة واختصار الزمن وكسر هيبة الاحتلال.