الشيخ نزيه مطرجي

جعل الله تعالى النَاس معادن مختلفةَ كمعادن الذَّهب والفِضة، وَجَبَلَهُم طِباعاً متنوِّعة كتنوُّع الأَرض والتُّرْبة، وبتعدُّد الطِّباع والمعادِن،  واختلف الناس في مناحي التصوُّر والتفكير، ولا يزالون مُختَلِفين، إلا من رَحِمَ ربُّك، ولذلك خلقهم، وفي ذلك يقولُ بَعضُ السَّلف: «للِاختلافِ خَلَقَهُم!»، ولكنّ الاختلاف المحمود الذي يَرضى بهِ اللهُ عز وجَلّ هو اختلافُ تَنَوُّعٍ وبُرهان لا اختلاف تضادّ وعُدوان. من أجل ذلك وجَبَ على أُولي النُّهى وذوي الحِجى أن لا يتعصَّبوا لاجتهادِهم، ولا يتزمَّتوا في نظراتهم، وأن يتسامحوا فيتعاونوا في ما يتَّفِقون عليه، ويَعْذُرُ بَعْضُهم بَعْضاً في ما يختلفون فيه.
إنّ ما لا يَحِقُّ لِأَتباع الحقِّ أنْ يختلِفوا فيه هو ما كان في القضايا الكُلِّية، والأمور القَطْعِيّة، أما في المسائل الظنّيةَ كافَّةً، والشؤونِ الحياتيةِ عامة، فلا حَرَج في الاختلاف ولا جُناح في عَدم الائتلاف! لِذا كان مَحَلُّ الاختلاف الذي شرعه الله وجَعلَه من سُنَن الحياةِ هو في المجال الأَوسع والمدار الأرحَب. 
لقد أمر الإسلام بأن تكون الدعوةُ إلى سبيل الله بالحكمة والموعظةِ الحسنة، وأن تكون المجادلةُ بالتي هي أَحسَن، وكُلّ من يُخالِفُ هذا النَّهج القرآني فإنه يَخرج عَن الطريق القويم، ويخالفُ أَدَبَ القرآن العظيم؛ ومن العجب أنّ كثيراَ من دُعاة الإسلام يَنْهَون عنه ويَنْأوْن عنه، {وإنْ يُهْلِكونَ إلا أَنْفُسَهم وما يشْعرون} الأنعام – 36، فهم يؤمنون بأن الجَدَلَ ينبغي أن يكون بالتي هي أحسن، وينهون عن مُخالَفتهِ، ولكنهم ينْأَون عنه ويقعُون في الـمِراء المذموم، وفي اللّدَد مع الخصُومَ!. والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: إن أَبْغَضَ الرِّجال إلى الله الأَلَدُّ الخَصمِ» رواه مسلم.
إن الجَدَل العقيم الذي يدور بيننا، والصِّراعَ البغيض الذي يعصف بحياتنا في كُلِّ ما يَحْتَملُ تَعَدُّداً في المذاهب، لا يأْتلِف مع المنْطق العقليّ أو الشّرعيّ! فإنّ لكلٍّ حقَّهُ في أن يؤيِّد قولَه بالحُجّة والبيان، وأن يَنْقُضَ أدِلَّةَ خَصْمَه بالمنطق والبرهان، وليس لأحدٍ الحقّ في أن يَرْمي مُحَاوِرَه بِجارِحةٍ من القول أو صاعقةٍ من الغضَب، أو يصُبَّ على خَصْمه سَجْلاً من الشَّتائم والسُّباب لأنه خالَف رأيَه أو ذَهَبَ غير مَذهَبِه.
ولقد اعتَدنا في شَرْقِنا المتخلِّف أن تكون حُجَّةُ الأَلدِّ الخَصِم هي الأَقْوى، وأن يكون صِياحُ العُتُلِّ الـمُسْتَكبِر الـمُزاحِم لِأنْكَرِ الأَصوات هو الأشدُّ وَقعاً في الرؤوس والأكْثَرُ إيقاعاً في النُّفوس!
إن الحقَّ أَولى بالمجاملة من الـمُجادِلين الأشدَّاء، وأَحَقُّ بالاتِّبَاع من الرِّجال الأَلشداء! إذا لم تُمكِّنك حُجَّتُك من إقناع مُناظِريك فلا عُذْر لكَ في أن تقودَهم إلى مَذْهَبك بسَيف السُّلطان وقَهْرِالإِرغام.
يَعْظُم على كثير من الـمُفكِّرين والباحثين، وأصحابِ المذاهب، وأرباب المناصب أن تُدْحَضَ حُجَّتهُم، وتسقُطَ هيبَتهم، وأن يتنازلوا عن مواقفهم، وفَاتهم أن يَذْكُروا بأن الحَقّ أَحقُّ أن يَتَّبِعوه، وأنّ الخضوعَ فَضيلةٌ تدل على صَفاء اليقين والتواضُع في الدِّين، وإنما الكِبْرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس، ولقد كان من وصَايا الخليفة عمر لقاضيه أبي موسى الأَشعري: ولا يمنَعْكَ قضاءٌ قَضيتَه بالأمس ثم راجعت فيه نفسَك، وهُدِيت فيه إلى رُشدك، أن تَرجِعَ إلى الحقَّ، فإن الحقَّ قديمٌ لا يُبْطِله شيء، ومراجعةُ الحقِّ خَيرٌ من التمادي في الباطل.
إن النَّاس إذا حُرموا نورَ الإيمان وعَوْنَ الرَّحمن، تَرَكوا العَمل وغَرِقوا في الجدل «وما ضَلَّ قومٌ بعد هُدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجَدل» رواه الترمذي.
إن نبيَنا الأكرم صلى الله عليه و سلم بَشَّرنا بأنه زَعيمٌ ببيتٍ في رَبضِ الجنة لمن تَرَك المِراء وإن كان مُحِقاً» رواه أبو داود.
فَحذارِ ان تُرخِيَ العِنان في ما أَنت عنه مَزْجور، وتَتَولّى بِرُكنك عما أنت عليه مأجُور! إن أغلبَ المجالس تفتقد هدوءَ النفس، وتغيبُ عنها موضوعيةُ البحث، يشتدُّ فيها وَطِيسُ الجدل والمنافسة، ويَرتَع فيها قَبِيل الأبالِسة، فتجدُ مَطلَبها ومَغنَمَها، وتنفثُ السُّموم وتُوغِر الصدورَ، وتنثُر بُذورَ النِّزاع والشِّقاقِ وسوءَ الأخلاق.
فإنْ كنتَ تَرجو حُسْن الأَدب وبلوغَ الأَرَب، فَدَعِ الباطلَ واللَّدَد (الخصومة) واطلُب من الله تعالى الهِدايةَ والمدَدَ!