الشيخ نزيه مطرجي

الصِّدق في الأقوال والأفعال سَجِيَّة كريمة، وفضيلة جليلة، تتبوّأ في المنازل أرقاها، وفي المناقب أعلاها. لقد صِرنا إلى زمن يفيض فيه أهل الغَدر والإخلاف فيضاً، ويغيض فيه أهل العَهد والوَفاء غَيضاً! إن للوفاء شأناً عظيماً في الإسلام، وفضلاً كريماً في سنّة النبي عليه الصلاة والسلام.
إن الله تعالى قد أمَرنا بأن نَفِيَ بالعُهود والوعود، وأن يكون الوفاء حِصناً لنفوسنا، وزينة لأخلاقِنا، فقال عز وجل: {وأَوْفوا بعَهْدِ الله إذا عاهدْتُّم} النحل-91، وهو سبحانه أصدق القائلين الواعدين، وأوفى المُعاهدين المُبشّـِرين؛ يقول تعالى: {ومَن أوفى بعَهْدِه من الله، فاستبشِروا ببَيعِكمُ الذي بايَعْتُم به وذلك هو الفوز العظيم} التوبة-111.
والنبي الكريم صلى الله عليه وسلم يقول داعياً إلى الصدق والوفاء: «أُصدُقوا إذا حدَّثْتُم، وأَوْفوا إذا وَعدْتُم وأدُّوا إذا ائتُمِنتُم..» أخرجه ابن أبي الدنيا.
القوّالون في دنيانا كثيرون يملؤون الدُّنيا ضجيجاً وصَخَباً، ويَصُمّون آذان الأنام، والفعّالون قليلون، لا يكادون يَظهرون إلّا كمثل شِهابٍ لاحَ في سواد الظلام.
لقد تربَّت أمتنا على صِدق الوفاء مع العدُوِّ والصديق، والبعيد والقريب، وقد ورد في السُّنَّة المُطهَّرة أن حُذيفة بْنَ اليمان كان في مكة، فأراد أن يُهاجر مع أبيه إلى المدينة، فقبض عليهما المشركون، وقالوا لهما: إنكما تُريدان مُحمَداَ؟ فقالا: ما نريد إلا المدينة، فأخذ عليهما المشركون العُهُود والمواثيق حتى لا يُقاتلا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأعطَى حُذيفةُ وأبوه على ذلك عَهْدَ الله وميثاقه، ثم هاجَرا، وجاءت غزوةُ بَدْر فأرادا أن يُشارِكا فيها، وأخبرا النبي صلى الله عليه وسلم بما أعطَياه للمشركين من عهدٍ وميثاق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: «انصرفا، نَفي لهم بعَهدِهم ونستعينُ الله عليهم!» رواه مسلم.
لقد دبَّ إلى أمتنا داءٌ دَوِيٌّ من السَّفه والفساد الذي عمَّ وساد، وبخاصة عند سادة البلاد وقادة العباد، ذلك هو داء الاستهانة بالعُهود، والاستهتار بالوُعود، أو سمِّه إن شئتَ داء مواعيد عُرقوب!
وعُرقوب رجلٌ من العماليق من يثرب، رُوي أنه أتاه أخ له فقال له عرقوب: إذا طَلَعتْ هذه النخلة فلَك طَلعُها، فلما طلَعت أتاه للعدة (الموعد) فقال: دَعْها حتى تصير بلَحاً، فلما أبلَحت قال: دعها حتى تصير زَهواً (ما يبدو من الثمر) فلما زَهَت قال: دعها حتى تصير رُطباً، فلما أرْطَبَت قال دعها حتى تصير تمراً، فلما أثمرت عمد إليها عرقوب من الليل فجذَّها (قطعها) ولم يُعطِ أخاه شيئاً، فصار مثلاً في الخُلْف، وفيه وفي أمثاله يقول الشاعر:
وَعَدْتَ وكان الخُلف منك سَجِيَّةًمواعيد عُرقوبٍ أخاهُ بِيَثربِ
إن الكُبراء وأصحابُ النفوذ يجعلون همَّهم كثرةَ الكلام، وإفْحامَ الأنام، وكمَّ الأفواه، والإفراط في الوعود والآمال، وبتنا كما قال الإمام عليّ في عهْدٍ قد اتَّخَذ أكثر أهله الكَيْسَ غدراً، أي إنهم يعُدُّون الغَدْر من التعقُّل وحُسن الحيلة والتدبر، سَفَهاً منهم وجهلاً!
وتُثبِتُ الأيام والحادثات أن أكثر كلامهم من الهَذَر، وأنّ وُعودهم خُلفٌ وغَدْر، وأن جُمهورهم يجب أن يكونوا منهم على حَذَر، وأن حلاوة كلامهم لا تنطلي إلا على السُّـذَّج والحَمقى من البشر؛ يريدون أن يكون حديثهم مُستَعذَباً، وكلامُهم مُسْتَظرَفاً، فيُكثِرون من استحلال الكَذب والخِداع، لتَطرب بخِطابهم الأسماع!
ولقد نبَّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خطرِ هذا النوع من الرجال فقال: «إن الرجُلَ يغدو من بيته فيكذبُ الكِذبة حتى تبلُغَ الآفاق»، أخرجه البخاري.
فما أشبه حالهم في خَلْط الكذب بالصِّدق بالمُنَجِّمين والكُهّان الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: ليسوا بشيء، وعندما قال أصحابه: إنهم يُحدِّثوننا أحياناً بالشَّيء فيكون حقاً! فقال: تلك الكلمة من الحقِّ يخطفها الجِنِّيُّ فيَقْذِفها في أُذُنِ وليِّه، فيَخلِطون معه مائة كِذبة! (أخرجه البخاري).
فيا أيها السادة المُخادعون المُتَحَدِّرون من نَسْل عُرقوب في نَبْذ الوُعود، أَوْلَى لكم أن تتحَلَّوا بالصِّدق والوفاء لكَسْبِ القُلوب وإرضاء علّام الغيوب!