الشيخ نزيه مطرجي

الزُّعماءُ والحكّامُ هم أحوَج الأنام إلى نُصْحِ النّاصحين ووَعْظ الواعِظين وتَذكرة الصالحين؛ والذين يتولَّون شؤون الأمة والولايات العامة هم أكثر البشر تعرُّضاً للغفلات والزلّات، ومن كان منهم راجح العقل واسع  الحكمة، عظيم الهمة لا يترفَّع عن سماع النّاصحين الأُمناء، والواعظين الحُكماء مهما علا قدره، وقوِيَ سُلطانُه!
لقد أتى على الأمة حِقبٌ مُشرقة وأيام مُزهرةٌ، تجلّى فيها سرُّ عظمتها في وفائها للحق مع من تُطيع من الزعماء والرؤساء، فلم يكن رجالها يتهيَّبون من تأييد الحكام حين يصيبون ولا يترددون عن نُصحهم حين يُخِطئون.. ولا يزال هذا المجد الغابر في طريق الانحدار حتى آذَنَت شمسها بالغروب وعهْدها بالانهيار.. ولم يعُد يبقى من الأمناء الذين يحافظون على خُلُق الشجاعة والجَهر بكلمة الحق إلا كمثل الخُلَّب من الضوء في ظلام الليل!
قال حُذيفة رضي الله عنه: دخَلْتُ على عمر فرأيته حزيناً مهموماً، فقلت له: ما يهُمُّك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني أخاف أن أقع في مُنكر فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً لي! فقال حُذيفة: والله لو رأيناك خرجتَ من الحق لَنَهَيْناك! ففرح عمر وقال: الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقوِّمونني إذا اعوجَجْت، ففتح عمر في ذلك الديوان باباً واسعاً يدخلُ منه كل مَن يريد أن ينصحَ له، وأن يقول له: اتَّق الله!
كان عمر مع أصحابه يوماً فقال له رجلٌ: اتَّق الله يا أمير المؤمنين! فقال بعض الحاضرين لذلك الرجل: أتقول هذا لأمير المؤمنين؟ فقال عمر: دَعوه فلْيقُلْها، فلا خيرَ فيكم إن لم تقولوها، ولا خيرَ فينا إن لم نسمعها. وأمام هذه الأمثلة الشّاهدة من المناقب التي تُعدُّ في زماننا كالعجائب، تقوم امرأة من عامة المسلمين هي خَولة بنت حكيم فتقول لعمر: عهدي بك يا عمر وأنت تُسمّى عُميراً في سوق عُكاظ تصارع الفتيان، فلم تذهبِ الأيامُ حتى سُمِّيت عمر، ثم لم تذهبِ الأيام حتى سُميت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرّعيّة، واعلم أنه مَن خاف الموت خَشِيَ الفَوْت!
إن شرعنا المقدَّس يقضي بالاقتصاص من الحكّام في الجروح والأَنْفُس، فالحاكم فردٌ من الأفراد يجري عليه ما يجري عليهم؛ خَطَب عمر يوماً فقال: أيها الناس، إني والله ما أُرسل عُمّالاً ليَضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أُرسِلُهم ليُعلِّموكم دينكم وسُنّة نبيِّكم، فمن فُعِل به شيءٌ سوى ذلك فلْيَرفعه إليّ، فو الذي نفس عمر بيده لأقضينّه منه! وقد استند عمر إلى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يقصُّ من نفسه في أكثر من واقعة، ويَشهد لذلك أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان يَقسِمُ شيئاً بين أصحابه ذات يوم، إذا أكبَّ عليه رجلٌ فطعنه بعُرجونٍ كان معه، فصاح الرجل! فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: تعال فاسْتَقِد، فقال الرجل: «بل عَفَوْت يا رسول الله» أخرجه النسائيّ. ورُوِي من حديث عمر رضي الله عنه أنه قال: «رأيتُ رسول الله صلى الله عليه و سلم يُعطي القَوَد من نَفْسِه، وأبا بكر يُعطي القَوَد من نفسه، وأنا أُعطي القَوَد من نفسي».
لقد ابتُليت الأمة بحكّام ظلّام مُستبدّين، قُصورهم قيصريّة، وكنوزهم كِسرَوِيّة، ومواكبهم جالوتيّة، يرفعون شعاراً فِرعونياً يقول فيه قائلهم: «ما أُريكم إلّا ما أرى وما أهديكم إلّا سبيل الرشاد»، فاستخفّوا قومهم فأطاعوهم، وصَبَر الناسُ على ظُلمهم وفسادهم وأقرّوهم، وابتُلِيَت الأمة كذلك بجماهير من المنافقين والـمُتَمَلِّقين يُزيِّنون للحكام أنهم يجَسِّدون الحق المبين، ويلْزَمون العدل والنهج القويم، ولو كانوا حُكاماً ظالمين، وطغاة مُستبدِّين... وبذلك يدوم الظلم والفساد في البلاد والعباد، والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين بالقِسط شُهداءَ لله ولو على أنفُسِكم أو الوالدَين والأقربين} النساء-135.
لقد أرشَدَت السنة النبوية إلى واجب الأمة تجاه السطان الجائر، فقال النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: «أفضل الجهاد كلة حق عند سلطان جائر» أخرجه أحمد، وقال: «إذا رأيتَ أمتي تَهابُ أن تقول للظالم يا ظالم فقد تُوُدِّع منهم» رواه الحاكم.
وإذا عُدِم الناصحون، وفُقد الصادقون، وشَغَل الساحة المنافقون، فكأنما صنَع الناس الطُّغاة بأيديهم، وأقاموا حُكم الفساد باختيارهم، والله تعالى يقول: {وما كان ربُّك لِيُهلك القرى بظُلمٍ وأهلها مُصلحون} هود-117.
فلا خير في أمة لا تُحاسب حكّامها، ولا تَمحَضُهم نُصحها وهُداها، ولاخيرَ في أئمةٍ يُعرضون عن كلمة الحق ويُنكرون قولها ويأبون سماعَها!}.>