الشيخ نزيه مطرجي

إن المؤمن يوقِن بأن الرِّزق مَنوطٌ بالسَّعي والعمل لا بالقُعود والكَسَل، فالعملُ سُنَّة الله في الخليقة، والكسلُ يُصادم الفِطرة ويُجافي الشريعة. والمؤمن يسوؤه أن يكون كَلّاً على غيره، ويُرضيه أن يكون متوكلاً على ربِّه الذي يأمُرُه بأن يسعى في مناكب أرضه، ويأكل من رِزقه، وأن يَقتاتَ من كَسْبِ يده، وقد جاء في الحديث الصحيح: «ما أكل أحدٌ طعاماً قطّ خيراً من أن يأكل من عمل يده» أخرجه البخاري. والله عز وجل يقول: {هو الذي جَعَل لكُم الأرضَ ذلولاً فامْشوا في مَناكِبها وكُلوا من رِزقهِ وإليه النُّشُور} سورة الملك-15.
جاء في كلمة ذهبية لعمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: «لا يَقعُدّنَّ أحدَكم عن طَلب الرزق وهو يقول: اللهم ارزُقني، وقد علِم أن السماء لا تُمطِرُ ذهباً ولا فضّة، والله تعالى إنما يرزُق الناس بعضهم من بعض».
إن العمل لكسْب الرزق عبادة، والسَّعي على الأهل والعيال عبادة، ومَن جَهِد في طلب المعيشة وكسْب الرزق وتأمين القوت، لا يقِلُّ مثوبةً في ذلك عن مثوبة مَن يَرْفعُ الشَّعائر التعبُّدية، ويُقيم الشَّرائع الربانِّيَّة! فقد ورد عن أبي أيوب الأنصاريّ أنه قال: نُبِّئتُ أن أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم كانوا في منزلٍ لهم فأشرف عليهم رجلٌ، فأعجبهم شبابُه وقوَّتُه فقالوا: «لو أن هذا جعل شبابَه وقوَّته في سبيل الله تعالى! فسَمِع بذلك النبي صلى الله عليه و سلم فقال: أوَ ما في سبيل الله إلا كلُّ مَن قاتَل أو غزا ؟! مَن سعى على نفسه ليُعِفَّها فهو في سبيل الله، ومَن سعى على والدَيْه ليُعِفَّهما فهو في سبيل الله، ومَن سعى على عياله ليُعِفَّهم فهو في سبيل الله» رواه الطبراني.
يظنُّ كثير من أهل العبادة أن الثوابَ موقوفٌ على أعمال الدين ومطالب الآخرة، وأن أعمال الدنيا التي يُراد منها جَلبُ المنافع وتحقيق المصالح وإصلاح الحياة، لا يُؤْجَر صاحبها أو يُثاب، وهُم بذلك يتحجَّرون واسعاً ويُضَيِّقون رحمة الله التي وسِعَت الإنسَ والجانّ، والوَحشَ والهَوامّ! فالمؤمن مَجزيٌّ على مَسعاه، وما يُنفقه  على نصيبه المقرر له في دنياه، والله تعالى يقول: {وابْتَغِ فيما آتاك الله الدّارَ الآخِرةَ ولا تَنسَ نَصيبَكَ مِن الدنيا} القصص-77، ولا فَرقَ في الأجر والبَركة بين دينارٍ يُنفقه المؤمن على العيال، وآخر يُنفقه في صالح الأعمال؛ وإذا شِئتَ شاهداً على ذلك فارْجع إلى قول نبيّ الهُدى والرحمة صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدينار دينارٌ يُنفقه الرجل على عياله، ودينارٌ يُنفقه الرجل على دابَّته في سبيل الله، ودينارٌ يُنفقه الرجل على أصحابه في سبيل الله» أخرجه مسلم. إن هذا الأمرَ دِينٌ لا اجتهاد، وشَرعٌ لا رأيٌ للعباد.
فما بال أقوامٍ من أهل الإيمان يَجنحون في ظُلُمات الجَهل التي تسودُ البُلدان، إلى حَصْر العمل الذي ينفع في الآخرة في دائرة العِبادة الخالصة بيقين، والدعوة الصادقة إلى الدين، وما عدا ذلك فهو من متاع الدنيا وزينتها، ويُصَوِّرون الدنيا والآخرة كضَرَّتين إذا أرضَيْتَ إحداهما أسْخَطْتَ الأُخرى ! وهذا ما يُسوِّغ للبعض أن يُقصِّر في حقوق بيته وعياله، وفي حقِّ مهنته ووظيفته لانهماكه بحسب زَعمه في شواغل الآخرة!
إن الدنيا مزرعةُ الآخرة، والمزرعة تحتاج إلى عَزمٍ صادق وعمل ناطق. لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم زُرّاعاً وتُجّاراً وصُنّاعاً مُتقِنين كما كان الذين قال الله فيهم: {فبِهُداهُمُ اقتَدِه}، فلم يَقعُد بهم العمل للآخرة عن العمل للدنيا... ولقد قال لهم رسولنا الكريم [: «إذا قامت الساعة وفي يدِ أحدكم فَسيلة فاستطاع أن لا تقوم حتى يَغْرِسها فليغرسها» رواه أحمد.
وهذا ما دفع الصحابيَّ الكريم أبا الدرداء رضي الله عنه إلى أن يَزرع شجرة جوزٍ وهو شيخٌ هَرِم فقالوا له: كيف تزرع هذه الشجرة وهي لا تُثمر إلا بعد أمدٍ بعيد؟ فقال: وماذا عليَّ أن يكون لي أجرُ غَرسِها ولغيري أكْلُ ثمرتها.
إن ذوي الفطرة السليمة يفيئون إلى ظِلال الحقِّ ويعملون لأُولاهم وأُخراهم، ولِدينهم ودُنياهم، فنِعمَ المطيَّةُ الدُّنيا، فارْتَحلوها تُبلِّغْكُم الآخِرة!