الشيخ نزيه مطرجي

إن جوارح الورى تنطِقُ يوم القيامة شاهدةً بما تسمع وترى، وإن مشهد محاورة الجوارح في يوم الجزاء أضحك سيّد الأنبياء عليه الصلاة والسلام فأخبر الناس بما أراه الله حين يجادل العبدُ ربَّه يوم القيامة ويقول: «أَيْ ربي! أليْسَ وعَدْتَني أن لا تظلمني؟ قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي، فيقول الله تعالى: أوَلَيس كفى بي شهيداً والملائكة الكِرام الكاتِبين؟ فيردد العبد كلامه» فيختم الله على فِيه ويبعثُ عليه شُهوداً من نفسه، جِلدَه وبَصره ويديه ورِجليه.. فتتكلم أركانُه بما كان يعمَل، فيقول لها صاحبها: «بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، عنكنّ كنتُ أجادل!» رواه البزار. وتستمر المخاصمة، ويقول الخَلْقُ لجلودهم: {لم شهدتم علينا؟} يقولون: {أنطقَنا الله الذي أنطق كل شيء} فُصِّلَت-22. وحين يَنْحون باللائمة على أعضائهم كيف شهدت عليهم تُجيب: {وما كنتم تستترون أن يشهدَ عليكم سمعُكم ولا أبْصارُكم ولا جُلودُكم} فُصِّلت-22.
لو قُدِّر لجوارح الصائم أن تنطِقَ في شهر الصيام بمنطِقٍ صريح وبيان فصيح، لجَرَت مُحاورةٌ بين الجوارح الصائمة والجوارح العاصية، فتقول الـمَعِدات الجَوعى: جُوعنا مُؤلِم، وسَعْيُناً مُضْنٍ، ولكنْ يهونُ علينا تركُ شهوةِ الطعام طاعةً لربِّ الأنام، وإرضاءً لذي الملك والإنعام، فإن مَكرَهنا في ما يكره مولانا، وإن كان مُوافقاً لهوانا. وتقول الأكباد العَطشى: الظمأ أضنانا وجفَّف عروقنا، ولكنَّ رضا ربِّنا أحبُّ إلينا من الماء الزُّلال في فم الصّادي (العطشان)، وتسمع الجوارحُ العاصيةُ أقوال الأعضاء الطائعة، فيدفعها الفضول إلى الرد قائلة: الحمد لله الذي أنجانا مما أنتنّ فيه، وخفَّف عنا، والله تعالى يقول: {يريد الله أن يُخَفِّفَ عنكم، وخُلق الإنسان ضعيفاً} النساء-28، فتقول الأعضاء الطائعة: إذا أجمَلَ القرآن في أحكام الصيام، فأين شرعُ النبي عليه الصلاة والسلام الذي دعاكنّ إلى الصوم في قوله: «الصيام جُنّة، فإذا كان يومُ صومِ أحدكم فلا يرفُث ولا يَصخَب، فإن سابّه أحدٌ أو قاتله فليقُل: إني صائم» متفق عليه، وفي قوله: «مَن لم يدَعْ قولَ الزور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أن يدَع طعامه وشرابه» رواه البخاري.
تقول العاصية: إن الصيام عليكن فريضة يحْرُم تركها، أما علينا فسُنّة مُستحَبّة، والفِطر إن كان يُكره فليس مُحرّماً علينا؛ تقول الطائعة: ليس من أمارات المحبة أن تُحبِبنَ ما يكرهه حبيبُكُنّ! أما سمعتُنّ ما قاله بعض السلف في صومِكنّ: «إذا صُمتَ فليصُم سمعُك وبَصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ولا تَجعل يوم صومِك ويومَ فِطرك سواءً». 
تقول العاصية: دعي عنك هذا، فإنه لا غِنى لنا عن شهواتنا، ولو فُرض علينا صيام الشهوة لكان معلوماً بالضرورة. تقول الطائعة: إنكنّ باتباع الشهوات تُفسِدن علينا صيامنا، وقد رُوي في الحديث: «رُبَّ صائم حظُّه من صيامه الجوع والعطش، ورُبَّ قائمٍ حظّه من قِيامه السَّهر» رواه أحمد.
فوا عجباً والله! نحن نتقرّب إلى الله بِتَرك المباحات من الطعام والشراب، راضياتٍ صابرات، وأنتنّ لا تتقرَّبْنَ إلى الله بترك الـمُحرَّمات! إن التقرُّب إلى الله بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إلى الله بترك المحرَّمات، فمن ارتكب المحرمات ثم تقرب إلى الله بترك المباحات كان كمَن يبني قَصراً ويَهدِم مِصراً! أو كمن يترك الفرائض ويتقرب إلى الله بالنوافل!
ألا هل بلَّغنا؟ اللهم فاشهد! فأعرضَتِ العاصية وقد لزِمَتْها الحُجّة وأفحَمها الدليل، وأطرَقَتْ تفكِّر في عزمها على صيام الجوارح، وفي قوة إرادتها على تَرْكِ ما اعتادَتْ عليه من المخالَفات، وغضِّ البصر وحِفظ اللسان وكفِّ السَّمع والجوارح عن الآثام استجابة لله ولرسوله، ألا هل بلَّغنا اللهم فاشهد! وطفِق كل عضوٍ يتمَلمَلُ حُزناً على فرَط منه، وأسفاً على ما فرّط فيه.
وأنصتَتِ الحواسُّ لأصداء صوت الصادح (المنادي) بصِيام الجوارح وهو يقول: 
إذا لم يكن في السمع مني تصامُمٌ وفي بصري غضٌّ وفي منطقي صَمْتُ
فحظّي إذاً مِن صَوْميَ الجوعُ والظَّمأ وإن قلتُ إني صمتُ يومي فما صمتُ
فهلّا سَعَينا في صومنا إلى إشراك الجوارح والأعضاء مع البطن والأمعاء لتُدرك النفوس مَنازل صَومِ الخُصوص، فهلّا نكون منهم؟>
- تصامُم: إعراضٌ عن السَّمع.