الشيخ نزيه مطرجي

القرضُ الحسن نَفْحة من محاسن الخِصال، ونِعمةٌ من محامد الفِعال، لا يجود به إلاّ ذوو مروءة وأنفُسٍ سخيَّة، وأُولو شهامة وأخلاقٍ عَلِيّة، وبخاصّةٍ في زمانٍ أُحضِرَت فيه الأنفُسُ الشُحَّ، وقُدِّس المال وفَسَد الحال، وجعل فيه إبليسُ يجول في حلباتِ كيده، ويضعُ الدينار على عينيه ويقول: بك أَصُولُ وبكَ أطْغَى، رضِيتُ من ابن آدم بحبِّه الدينارَ من أن يعبُدُني!
لقد استَقْرَضك الذي عنده خزائنُ الأرض والسّماء، قرضاً حسناً، لا يُراد به تجارة ولا نماء، ووعدك به أعظم الجَزاء، فقد ورد في الحديث: «رأيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي على باب الجنة مكتوباً: الصدقة بعشر أمثالها والقرضُ بثمانية عشر، فقُلتُ لجبريل: ما بال القرضِ أفضلُ من الصدقة؟ قال: لأن السائل يسأل وعندَه، والـمُستَقْرض لا يستقرض إلاّ من حاجة» رواه ابن ماجه. ولكن القرض الحسن محفوف بالمخاطر التي تزِلُّ بها القدم، وتُورث صاحبَها الحسرةَ والنَّدم، وتدورُ هذه المخاطِر حول شُبهةِ النَّفع بالقرضِ الحسن في الخفاء والعَلَن!
إن الشَّرع منع القرض الذي يجرُّ نَفْعاً وعدَّه من الرِّبا، ووضع الفقهاء القاعدة التي تقول: «كلُّ قرضٍ جر نَفْعاً فهو ربا».
لقد منع الشرع الـمُقرِض من قبول هديَّةٍ من المقترض ما لم يكن بينهما عادةٌ جاريةٌ بذلك قبل القرض، وفي الحديث: سُئل أنس بنُ مالك: الرجل منا يُقرض أخاه المال فيُهدِي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدَى إليه أو حمَلَه على الدابّةِ فلا يركَبَنّها، ولا يقبَله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك» أخرجه ابن ماجه.
وفي صحيح البخاري أن أبا موسى قال: قَدِمْتُ المدينةَ فلقيت عبد الله بن سلام فقال لي: «إنك في أرضٍ الربا فيها فاحِش، فإذا كان لك على رجلٍ حقٌّ فأُهدِيَ إليك حِملُ تبنٍ أو حِملُ شعيرٍ، أو حِملُ قَتٍّ (نباتٌ عُشبيّ) فلا تأخذه فإنه ربا».
إن الله تعالى حرَّم على الـمُتصدِّقين الذين يجودون بمالهم على المحتاجين أن يشوبوه بالرِّياء أو يُبطِلوه بالمنِّ والإيذاء، فقال تعالى: <يا أيها الذين آمنوا لا تُبطِلوا صدقاتكم بالمنِّ والأذى كالذي يُنفق ماله رِئاء الناسِ ولا يُؤمنُ باللهِ واليومِ الآخر> البقرة-264.
فأمَرَ أن تكونَ النَّفَقةُ في سبيل الله لا رياءً وسُمعةً، ولا طَمَعاً بمغانم ومنافع دنيوية، فأُولو النِّعمة هؤلاء، وإن كانت يدُهُم الـمُنفِقة هي اليد العُليا، وهم تجّار دُنيا، وحبُّ العطاء ليس خُلُقاً أصيلاً في نفوسهم.. هؤلاء لهم ما تُعطي سُننُ الحياة من ثوابٍ كَفاءَ ما يبذلون، لا يُبخَسون منه شيئاً، فعطاؤهم في الدنيا يُصيب، أما في الآخرة فليس لهم فيها نصيب، ومَثَلُه <كمَثَل صَفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صَلْداً لا يقدرون على شيء مما كسبوا> البقرة-264.
وما أشبهَ حالَ من يُقرِض الناس، وهو يَطْمَعُ في نفعٍ أو مغنَمٍ بحالِ هؤلاء الـمُفلِسين!
إن من الورع اجتناب الشُبهات، ومن اتَّقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه.
يقول الصِّدِّيق أبو بكر رضي الله عنه: «كنا نَدَع سَبْعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب واحد من الحرام!» ويقول عمر رضي الله عنه: «كنا نَدَع تسعة أعشار الحلال، مخافة الوقوع في الحرام!»
رُوي عن أبي حنيفة أنه كان له دَينٌ على رجل في بغداد، فذهب إليه مع بعض تلاميذه في يومٍ وسط النهار والحرُّ شديد، فطرق البابَ على الـمَدين، وابتعد عن الباب لوجود سقيفة فوق الباب تقي من الحرِّ، فقال أحد تلاميذه: لِمَ ابتعدْنا عن السَّقيفة ووقفنا في الشمس؟ فأجاب: لنا دينٌ على صاحب السّقيفة، ووقوفنا تحت السَّقيفة هو استفادة من الدَّين، وهذه شُبهة ربا!!
إن للزُّهدِ أوجهاً ثلاثة: زُهدُ الفَرْض، وهو الزُّهد في الحرام، وزُهد الفَضْل وهو الزُّهد في الحلال، وزُهدُ السَّلامة، وهو الزُّهدُ في الشُّبُهات.>