الشيخ نزيه مطرجي

إن للمؤمن قلباً شاكراً، ولِساناً ذاكراً وجسَداً على البلاء صابراً؛ والمؤمنُ ينفَرِد عن سائر العباد بأنه أكثر تعلُّقاً بالله، وأنّ أعظمَ ما يَشغَلُ فُؤاده ذِكرُ مَولاه، وأشْرَفُ مقاصِدِه طاعةُ الله والفوزُ بِرِضاه؛ غيرَ أن الإسلام لا يُريد من أهلِ الإيمان أن يكونوا ملائكةً أطهاراً أولي أجْنِحةٍ، لا يعصُون الله ما أمَرَهُم ويفعَلون ما يُؤمرون، بل يُخاطِبُهم على أنهم بشرٌ يُخطِئون ويُصيبون، ويأكلون الطعام ويمشون في الأسواق،  ويَعْمُرون الدنيا ويَعْبُدون الخلّاق!
إن العبد المؤمن ذا الفِطرةِ الإنسِيَّة والحاجاتِ الدُّنيَوِيّة والـمَلَكات الأرضِيّة لا يُمكنه أن يقضي عمره في الذِّكر والطاعات وفي العبادة والقُربات، ولا أن يتبتَّل وينقَطِع عن روابط الحياة، فالله تعالى كلَّفه بأن يُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقه: نَفْسَه وجَسَده وأهلَه وماله.. ولم يَفْرِض الله على بني آدم أن يكون كلُّ قولِهم ذِكراً، وكلُّ صمْتِهم فِكراً، وكلُّ ليلِهم قِياماً، وكلَّ نهارِهم صياماً.. وكيف وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك واستَنْكَره، وقال: «فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني» أخرجه البخاري.
ومِن أهمّ الشَّواهد في ذلك حديث حنظلة الذي شرَع فيه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم الفُسحة في الدِّين، ورخَّص اللهو والترفيه.. وقد قصَّ حنظلة الأُسَيدي الخبرَ فقال: لقيني أبو بكر فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قلتُ نافَق حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟! قال نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُذكِّرنا بالنار والجنة كأنها رأيُ عَين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافَسْنا (لاعبنا) الأزواج والأولاد والضّيْعات (أمور الدنيا) فنسينا كثيراً! قال أبو بكر: فو اللهِ إنا لَنَلْقى مثلَ هذا! قال حنظلة، فانطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دَخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلتُ: نافَق حنظلة يا رسول الله! قال وما ذاك؟ فذكر حنظلة مِثل ما ذكر لأبي بكر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنكم لو تدومون على ما تكونون به عندي وفي الذِّكر لصافَحتْكُم الملائكةُ على فُرُشِكم وفي طُرُقِكُم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة! وكرَّر هذه الكلمة ثلاث مرات!
وقد انتفع بهذه الرُّخصة وعمِل بهذه السُّنة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فاقْتَدَوا برسولهم الكريم في مِزاحه وفي طريف مقاله وظريف حِكمته، فكانوا يَمزحون ويضحكون، ويَلعبون ويتسابقون. وقد روى البخاري في الأدب المفرَد أن الصحابةَ كانوا يتبادَحُون بالبطيخ (أي يترامون به)، فإذا كانت الحقائق كانوا هُمُ الرجال. ووَرد عن عليٍّ أنه قال: «إنَّ القُلوب تَمَلُّ كما تملُّ الأبدان، فابتغوا لها طرائق الحكمة»، وقال: «روِّحوا عن القلوب ساعة بعد ساعة، فإنّ القلوب إذا كلَّت عَمِيَت»!
ومن خُلق النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمزح ولا يقول في مزاحه إلا حقاً، ومما ورد في طريف مِزاحِه أن رجلاً من أهل البادية اسمه زاهِر، وكان دميمَ الوجه، أتاه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبيع مَتاعه، فاحتضنه مِن خلفِه، والرجل لا يُبصِره، فقال أرسِلْني مَن هذا؟ فالْتَفتَ فعرف النبي صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصَق ظَهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: مَن يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله إذن تجدني كاسِداً، فقال: «لكن عند الله لستَ بكاسِد، أنت عند الله غالٍ» أخرجه أحمد.
ولكنّ الاصْطِباغ بهذا الخُلُق النبويِّ اللطيفِ في اللهو البريء، وفي الترويح الـمُباح عن النُّفوس والأرواح يوجِب على المؤمنِ أن يجتنبَ السُّقوط في محاذير ثلاثة وهي: 
أ- الإفراط في المزاح لما فيه من سوء العاقبة، ومن التعرُّضِ للأعراض واستجلاب الضغائن، وفساد الإخاء، وانقطاع اللقاء، وإن المرَخَّص للأنام في المزاح هو بقدر ما يُعطى الطعام من الملح، وإن كثرة المزاح تأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب!
ب- الإفراط في الضحك لأن كثرة الضحك تُميت القلب وتذهب بنور الوجه، كما ورد في السُّنَّة المباركة، وقد كان جُلُّ ضحك النبي صلى الله عليه وسلم التبسُّم بل كلُّه التبسم، وكان نهاية ضحكه أن تبدُوَ نواجذه (أضراسه).
ج- الكذِب في المزاح لأنه يُعدُّ من الكذب الصُّراح، فهو يستوفي شروط الخطيئة، وقد ضلَّ مَن ظنَّ غير ذلك، ونبي الهدى صلى الله عليه وسلم بشِّر ببيتٍ في ربَض الجنة (طرف الجنة) لمن ترك الكذب وإن كان مازِحاً! 
فاستَرْوِحوا نسائم الدين الحنيف والفِقه اللطيف الذي يقوم على اليُسر والسّماحة، وانْهَلوا من مَعين سيِّد المرسلين في ما شَرَع وفي ما رخَّص، فإن الله تعالى يُحبُّ أن تُؤتى رُخصه كما يحبُّ أن تُؤتى عزائمُه. 
اللهم اجْعلنا من الزاهدين، وبلِّغنا مراتب حقِّ اليقين!>