الشيخ نزيه مطرجي

حياة الأنامِ لا تصلُحُ ولا تستقيم من دون نُصحٍ وتقويم. إن النصائح والمواعظ كالسِّياط تقع من القلوب في النِّياط، فتَحيا الحانيةُ منها والقاسية بالذِّكر كما تحيا الأرض الميْتة بالقَطر. لقد كانت مجالس البَشِير النَّذير [ مجالسَ ترغيبٍ وترهيب، وإنذار وتبشير، وتعليمٍ وتذكير. كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا خطب وذَكَر الساعةَ اشْتدَّ غضَبُه وعَلا صوتُه حتى كأنه مُنذِرُ جيشٍ يقول: صبَّحكُم ومسّاكم!
ذكَر العِرباض يوماً: «وَعَظنا رسول الله صلى الله عليه و سلم مَوعِظةً بَلِيغة وَجِلَت منها القلوب، وذَرَفَت منها العيون، فقلنا يا رسول الله كأن هذه موعظة مُوَدِّع».. ويقول حنظلة: «يا رسول الله نافقَ حَنظَلة»! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: وما ذاك؟ قال: نكون معك تُذكِّرُنا بالجنّة والنار كأنما هي رَأْيُ عَينٍ، فإذا رجَعنا من عِندك عافَسْنا الأزواجَ والضّيعات، نسينا كثيراً..» أخرجه مسلم، فما أحْوَج المؤمنين إلى الواعظين والـمُحتَسِبين!
إن المحتسب داعيةُ خيرٍ وبِرّ، يعمل في الهداية والإصلاح، والإصلاحُ زكاةٌ نصابه الصَّلاح، فمن ليس بصالح في نفسِهِ فإنه لا يملك النِّصاب، ولا يصلحُ لإصلاح غيره.
إن المحتَسِبين لا يكون أحدهم عالِماً ربّانِيّاً ولا كَوكباً دُرِّيّاً إلا أن يتخلَّق بالصِّفات والخِصال التي تتجاوز الشروط العامة من العِلم والخُلُق والإحسان... فالمحتسبون لا يَصْلُحون إلا إن كانوا يعملون بما يقولون، وينْزَجِرون عما عنه يَنهَوْن، فإن فَقدوا هذه الخَصْلة الثابتة الأصل، والـمَلَكة العالية القَدْر، لا يَنْدَفِع بهم المنكر، وكانوا مِثالاً سيِّئاً لمن فطن واعتَبَر!
إن العالِم إذا لم يعمل بعِلمه زلَّت مَوعظته عن القلوب كما يزلُّ القَطْرُ عن الصَّفا، والشاعر يقول:
مواعظ الواعِظ لن تُقبلا حتى تَعِيَها نفسُهُ أوّلا
فما كلُّ مَن وصَف الدواء تداوى به، ولا كلُّ ومن وصف التقى ذا تُقى، وعلى المحتسب أن يُوطِّن نفسه على التخلُّق بالحِلم واحتمال الأذى، كي لا يُصابَ باليأس والأسى في صِلَته بالناس، وعليه أن يُعِدَّ للصَّبْر عُدَّته ليصبر على ما يُصيبه، وأن يوقِن بالثواب من الكريم الوهّاب، ومن كان كذلك لا يضرُّه ما نال منه  الورى، ولا يجد في نفسه مسَّ الأذى، والله تعالى يقول: {يا بُنيَّ أقم الصلاة وأْمُر بالمعروف وانْهَ عن المنكر واصبِر على ما أصابك} لقمان-17.
ومن مَطالِب الاحْتِساب التي نصَّ عليها الكتاب الرِّفقُ في الخِطاب؛ وَرَدَ أن الخليفة المأمون استدلَّ على ذلك بنباهته وحصافَتِه حين وعظه يوماً واعظ فَظٌّ، فأغْلَظَ له في القول، فقال له يا هذا اُرْفُق بنا فإن الله تعالى بعثَ من هو خيرٌ منكَ إلى مَن هو شرٌّ منا وأمَرَه بالرِّفق، بعث اللهُ موسى إلى فِرعون فقال: {فقُولا له قولاً ليِّناً لعله يتذكَّر أو يخشى} طه-44.
إن التأسِّي بالنبي صلى الله عليه و سلم يُوجِب الرِّفقَ في الوَعْظِ، يدلُّ على ذلك لطائف مواقف النبي صلى الله عليه و سلم التي لا تُحصى، كما في حواره صلى الله عليه و سلم مع الغلام الشابّ الذي جاء يستأذنه في فِعلِ الفاحشة! فحاوره النبي [ بقوله: أترضاهُ لأمِّك؟ أترضاه لأختِك؟ ثم انصرف الغلام وما في قلبه شيءٌ أبغضُ إليه من هذه الرذيلة!
جاء في الحديث الشريف: «مَن أمَر بمعروفٍ فليكن أمرُه بمعروف» رواه البيهقي، فإذا حادَ المحتَسب عن الرِّفق كان معروفه مُنكَراً!
إن مما يُفسدُ الاحتساب أن يسقُط المحتسب في مَهاوي التملُّق والتصنُّع، فترى بعض المحتَسِبين يُداهنون حين يُحاصَرون بين الإصغاء لِصَوت الحقِّ من رُشدٍ أو نُصحٍ، أو أمرٍ أو نُكرٍ، وبين الإمضاء لأولياء النِّعمة، وذوي القُربى والأرحام، والصُّحبة والأخِلّاء، وأولي الشَّوكة والهَيبة، فيُزري بالمحتسب أن يصبح عنده لكل مقامٍ مقال، ولكلِّ وِجهةٍ وجه ولكل إنسان لِسان، وكلما مالت الرِّيح مال حيثُ تميل! فإذا لم يستطع أن يحفظ لنفسه تَقواها، ويصُدَّها عن هواها، فأنّى له أن يَصْدُق في احتسابها؟!
لقد عزَّ المحتسبون الأوفياء، وصاروا في هذا العصر أعزَّ من الياقوت والجوهر، وأندَر من الدرِِّّ الأحمر، وآذنَت شمسهم بالأُفول، وأمجادهم بالذُّبول، وما لنا إلّا أن نقول بكل تحسُّر وأَسى ما قالَه بعض السَّلف: يا له من دينٍ لو أنَّ له رِجالاً!>