الشيخ نزيه مطرجي

كان سيّدُ الأنبياء محمدٌ صلى الله عليه وسلم أكثرَ الناس تواضعاً وأبعَدَهم عن الكِبر، وقد كان من تواضعه أنه خُيِّر بين أن يكون نبيّاً مَلِكاً أو نبياً عَبداً، فاختار أن يكون نبياً عبداً، فقالت له الملائكة: فإن الله قد أعطاك بما تواضعتَ له أنَّك سيِّدُ ولد آدم يوم القيامة وأوّل شافع.. وكان من تواضُعه أنه «كان يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويَعتَقِلُ الشّاة، ويُجيب دعوة المملوك على خبز الشعير «رواه الطبراني»، وكان يخيطُ ثوبَه، ويَخصِف نَعْلَه، ويعملُ ما يعمل الرجال في بيوتهم «رواه أحمد».
إن َمَن تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه صغير وفي أعين الناس عظيم، ومَن تكبَّر وَضَعه الله فهو في نفسه عظيم وفي أعين الناس حقير...
إن العلماء والدعاة إلى الله هم أَولى الناس بالتواضع، وهو بهم أليَق، وله أَلزَم، وذلك لأن الناس بهم يقتدون وبخصالِهم يتأسّون وعلى سَنَنِهم يسيرون. إن التواضع خُلُقٌ مُحبَّب، والكِبرُ خُلُق مُنفِّر، وهو في كل إنسان قبيحٌ، وفي العلماء والدعاة أقبَح! ومما يُؤسَف له أن طائفة منهم قد أصابهم نصيبٌ وافرٌ من هذا الخُلق المذموم، ومَرَنوا على ذلك حتى صار لهم سجيّةً تصعب مداواتُها أو استئصالها، لأنها تأصَّلت في نفوسهم، وتجذَّرت في طباعهم، فنفرت منهم الأمة، وجَفاهم الأقرباء، وسخر منهم الأعداء، واجْتَواهم (كَرِهَهُم) من كان لهم صديقاً عزيزاً ووليّاً حميماً!
إن الاستعلاء على العباد والعُجبَ بالنفس من أقبح الصفات التي تجعل الناس يُعرِضون عن تقبُّل دعوة الداعين إلى سبيل الله، ويصُمّون آذانهم و{يَستَغْشون ثيابهم}؛ والناس بفطرتهم يكرهون الـمُستكبرين الـمُتعاظمين ويأنَسون بالمتواضعين الـمُوطَّئي الأكْنَاف الـمُصاحبين بالجَنبِ للقلوب والأرواح!
إن الداعي إلى الله لا يملك أن يضرب لدعوته طريقاً ممهَّداً، إذ إن طريقه وَفْقاً للسُّنن الإلهية قد حُفَّ بالمكاره والمصاعب، فإذا اختار لنفسه التّعالي على العباد فإن عيوبَه تتضاعفُ وأمانيه تتضاءل، ويُصبح دَرْبُه حَزْناً شديد الوَعْر؛ أما حامل الرسالة المتواضع فإن تواضُعَه يَستُر له عُيوبَه، وقلّما يرى الناسُ فيه إلا الـمَحامِد، ويضربون صفحاً عن المساوىء والمعايِب.
إن المتواضعين تحنُّ إليهم القلوب، وتُذلَّل لهم الصِّعاب، وتخضع لهم الرؤوس، فَهُم في الدنيا كالأقمار والشُّموس!
ومن لطيف المقال في فنون الأدب ما قاله أديبٌ بليغ يدعو إلى التواضع ويستنكر الاستعلاء في قوله: «يا سيدي! لو تبوَّأْتَ عرش بلقيس تنقُله إلى إيوان كسرى، واتَّخذْت من حُمرة الشفق بُردَك، ومن نجوم الأفُق أزرارك، وتقلَّدتَ لامع البرق حُساماً، وجعلتَ قوس قُزَحٍ حمائلَه، ما زادك في عيني إجلالاً مثلَ أدبٍ أجْنَيته من فمِك وخُلُق كريم أتبَيّنُه في طَبعِك»، كما يقول الأديب وليّ الدين يكن.
ألَا يا حَمَلة الدعوة لا يُصَدِّقَنَّ عليكم إبليسُ ظنَّه، فلا يُنسِيَنَّكم أن تجعلوا فوق هام الشَّعائر محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم أُسْوَتَكم في تواضعه ولِينِ جانبه، وخَفضِ جَناحه للمؤمنين، وسائر خِصاله العَلِيَّة وصِفاتِه السَّنيّة.