الشيخ نزيه مطرجي

إن من واجب المؤمن أن يَعرف قيمة الوقت، فالوقتُ هو حياةُ الإنسان في طفولته وفُتُوَّتهِ، وشبابهِ وهَرمِه، وقوتِه وضَعْفه، وعَطائه وشُحِّه، وما عمُر ابن آدم إلا أَيام كلما ذَهب يومٌ ذهب بَعْضُه.
والمؤمن أكثرُ الخَلْق إدراكاً لقيمة الوقت، لأنه يعلم أن الله تعالى يَسْألُه يوم القيامة عن مسائل حياته الكُبرى التي يَفِرّ من الحديث عنها أكثرُ العباد لأنها تُذكِّرهم بيوم المعاد، وقد أَوْضَحَها النبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي يقول فيه: «لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعِ خِصال: عن عُمره فيما أَفناه، وعن شبابه فيما أَبلاه، وعن مالِه من أين اكتَسَبه وفيمَ أَنْفَقه، وعن عِلمه ماذا عمل فيه» رواه الطبراني.
لذا فالتقيُّ ضنينٌ بوقتِه كَضَنِّ الشحيح بديناره ودِرهمهِ ، فليس يرضى أن يُمْضي وقته سَبَهْلَلاً، لا في أمرِ دينٍ ولا في أمر دنيا، كأن واعِظاً في قلبه، أو وازعاً في نفسه يُناديه ويأمره بحسن استقبال كلّ فجرٍ، وتشْيِيع كلّ مساء، وفي هذا يقول الحَسن البَصْريّ: «ما من يوم يَنْشَقّ فَجرُه إلا وينادي منادٍ: «يا ابن آدم! أنا خلقٌ جديد وعلى عملك شهيد، فَتَزوّد مني فإني إذا مَضَيْتُ لا أَعودُ إلى يوم القيامة».
إن المؤمن لا يُصيب هِمَّته في العمل الكَلَل ولا يُفسدُ عزيمتَه في الانتفاع من الوقت المـَلَل، رُئِيَ الصحابي أبو الدرداء ذاتَ يوم وقد طَعن في السِّنّ وهو يغرسُ شجرة جَوزٍ، فقال له بعض الناس أَتغرسُ هذه الجَوْزة وأنت شيخُ كبير؟ وهي لا تُثمر إلا بعد سنين؟ فقال وماذا عليّ أن يكون لي ثوابُها، ولغيري ثمرتُها؟ وشوهد رجلٌ شيخٌ كبير وهو يَغْرسُ شجرة زيتون، فَسُئل عن فِعْلِه وقد أَخْنَى عليه الدَّهْر، وصار على شَفَاَ حُفْرةِ القبر! فقال: غَرَسَ لَنا من قَبْلَنا فأَكَلْنا، ونَغْرِسُ لِيأكلَ مَن بعْدَنا!
ومن فَقِهَ قيمةَ الزمن أَقبلَ على صالح العمل، وحَرَص على اختيار ما يَعظُم ثوابُه في حياته وما يدوم أَجرُه بعد مماته، كأن يَقف وَقْفاً أو يُعلّم عِلماً، أو يَغْرِسَ غَرْساً أو يُجريَ نهراً، أو يَحفِرَ بئراً أو يبنيَ مسجداً أو يتركَ ولَداً صالحاً يدعو له.
إن تضييع الزَمن خَطْبُه جَلَل، وتفويتُ الأوقات خسائرُه فادحات. كان الصّالحُ من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يخشى قِصَر الأجل وطولَ الأَمَل، ويتهيأ لقدومِ قابِض الأرْوَاح فيغتنم دقائقَ الحياة وثوانيها، ويتركُ من يختلس قِسماً منها ويشارِكُه فيها، فلا يَرضى أن يُضَيّعَ لحظةً من غير ذكر أو قربة، وقد علم أن أهل الجنة لا يتحسَّرون إلا على ساعةٍ مَرّت بهم في الدنيا ولم يَذْكروا الله فيها. وقد نُقِل عن عمر بن عبد قيس أن رجلاً استوقفه وطلب منه أن يُبادله الحديث فقال له: أمْسِك الشّمس!
إن كان الذي يسْرق المال والأعيان من حِرزها مُستحِقّاً للقطع، فإن الذي يسرق وقتك ويختلس يومك يستحق القطيعة إلا من السّلام والتحية للخروجِ من إثم الهجْرة!
نلتقي أُناساً من مُختلِسي الأوقات فيملأون سَمْعنا بالَّلغو الفارغ، والمقال العابث، ونُبتلى بأقوامٍ يُكرِّرون على مسامِعنا قِصصاً وأحداثاً لا يتوانون عن ترديدِها في كل مجلس، ولا يخْجَلون من ذِكرها كلما خَطفوا خطفةً ترمز إليها، فالمـُراد عندهم أن يعْتلوا منصّات الخِطاب مُحدِّثين، وأن نكون لهم سامعين مُنصتين! ونُفجَعُ برجالٍ يُسوِّل لهم ضعفُ فِكرهم وسذاجةُ نفوسِهم أن يَمْخُروا بنا عُبابَ الخواطر والأفكار، وسوالِف الحوادث والأخبار، فلا يرقُبون في وقتنا إِلاًّ ولا ذِمة، وما ثَمَّ إلا كثرةُ الهَذر وقَتْلُ الأوقات!
لله دَرُّ الإمام حَسن البنا إذ يقول: «الواجبات أكثرُ من الأوقات، فَعاوِن غَيْرَك على الانتفاع بوقته، وإن كان لك مهمَّةٌ فأوْجِز في قضائها». إن مَن عَرف قيمة الزمان أَعرض عن فُضول الكلام، واجتنب سَقْطَ المـَقَال ولَزِم القَصْدَ والاعْتدال، ومن لم يَدعِ الفُضول جَنى عن العَدل وما لَهُ مِنْ عُذْرٍ مَقْبول.