الشيخ نزيه مطرجي

إن الدنيا حُلوةٌ خَضِرة، استخلفَ اللهُ عبادَه فيها لِيَبْتَلِيَهم فينظر كيف يعملون، ولقد صَدَّق على بني آدم إبليسُ ظَنّه إذ وقعوا في الفَسَاد عند إقبال الحياة كما أَفاد، فحين عَجز جنوده عن إِضلال أصحاب رَسول الله صلى الله عليه و سلم قال لِأتباعه: رُويْداً بهم! عسى أن تُفْتَح لهُم الدنيا فنُصيبَ منهم حاجتنا (رواه ابن ابي الدنيا)، وما يُبَيِّن هذا المعنى حديثُ رسول الله صلى الله عليه و سلم  الذي يقول فيه: «إذا فُتِحَتْ عليكم فارِسُ والرّوم أي قومٍ أنتم؟ قال عبد الرحمن بن عوف: نقولُ كما أَمَرنا ربُّنا، قال، أَوَ غير ذلك؟ تتنافسون ثم تتحاسدون، ثم تتدابرون ثم تتباغضون» رواه مسلم.
إن النزاع في المال والمتَاع لا ينجو من أنيابه إلا ثُلَّـةٌ من الأَوَّلين، ولا يسلم من مخالِبه إلا قليلٌ من الآخرين! إنه يَهوي بالناس إلى الدَّرْك الأَسفل من الهُبوُط الأَخلاقيّ، والمـُنْحَدر الأدنى من السقوط السُّلوكيّ، فيقضي على عِزِّ الكرامة حقاً، ويَحلِقُ الدِّين حَلْقاً! وأمام هذا الخطَر الذي يَدْهَمُ عامّةَ البشر، رأى الفُضَلاء أنّ الفقرَ أفضلُ من الغِنى، لأن الأَول مأمون، أما الثاني فخطرُه غيرُ ممنون! ولكِنّ الناس في ذلك يختلفون، فمنهم من لا يصلح له إلا الفَقْر، وهم الأَعمُّ الأغلب، والله تعالى يقول: {ولو بَسَطَ اللهُ الرِّزقَ لِعبادِه لَبَغَوْا في الأرضِ ولكنْ يُنزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشاء} الشورى–27، ومنهم من لا يصلُح له إلا الغِنى، ويكون لهم أكبر مُعِين على الدّين، وفي هذا يقول الرسولُ الأكرم صلى الله عليه و سلم : «نِعْمَ المالُ الصالح للرجل الصالح» رواه أحمد.
هذا التصارع البَغيض، والتَّقاتُل الذَّمِيم على مُغرَيات الحياة، ما نجا منه قوم، ولا خَلا منه قَرْنٌ؛ وقد وَرَد في الحديث الشريف أن عيسى عليه السلام كان في بعض سِياحَتِه ومعه رجلٌ، فَمَرَّ بقريةٍ فَاحتاجا إلى الطعام، فذهب الرجل ليأتي بطعامٍ، وقام عيسى يُصلّي، فجاء الرجلُ بثلاثةِ أرغِفَة، فوجَدَه يُصلي، فلما طال عليه الأمر أكَلَ رَغيفاً وتَرَك اثْنَين، فلما فَرغَ عيسى من صلاته قَدَّم له رغيفين، فقال له: أين الرغيفُ الثالث؟ فقال: لم يكن معهما ثالث!... فنزل على عيسى ثلاث قِطَعٍ من ذَهَبٍ من السَّماء، فقال للرجل: هذا لك، وهذا لي، وهذا لمن أَكَل الرغيفَ الثالث! فقال الرَّجُل: أنا أكلتُه! فذهب عيسى وترك له الجميع... فبينما هو يريد حَمْلَها، قَدِم عليه ثلاثةُ رجالٍ فقَتلوه، وأخذوا ذلك الذهب، ثم احتاجوا إلى طَعام، فذهب أحدهم ليأتي به، وبقي الاثنان، فاتَّفَقا على أنه إنْ رَجع قَتَلاه، وأخذا الذّهب وحدَهما، ووقع في قلبِه أن يجعلَ في الطعام سُمّاً لِيأكُلاه فيموتا فيأخذَ الذَّهبَ وحده ففعل ذلك، ورجع إليهما، فقاما إليه فقتلاه، ثم جلسا فأكلا الطعام فماتا! فرجع عيسى فوجد قِطّعَ الذّهب كما تركها، والأربعةُ صَرْعى فقال: سبحان الله هكذا عَهْدي بالدنيا أن تصنعَ بأهلها!
إن الخلافَ على الدنيا قائم في كل حين، يَصْرَعُ الطامعين، ويَتحدّى الصالحين، فمَنْ مِنا يَجْرؤ على مُنازَلتِه ويقوى على مُغَالبته؟! وَرَد في الحديثِ أن رجلَين جاءا يختصمانِ في مَواريثَ قد دَرَسَتْ وليس بينهما بَيِّنة، فقال النبي صلى الله عليه و سلم : «إنكم تختصمون إليَّ، وإنما أنا بشر، ولَعلَّ بعضَكم أن يكون أَلْحَنَ بِحُجَّتِه من بعض، وإنما أَقضي بينكم على نحوِ ما أسمع، فمَن قضيتُ له من حقِّ أخيهِ شيئاً فلا يَأْخُذْه، فإنما أَقْطَعُ له قِطعةً من النّار يأتي بها أسْطاماً (مَسامير) في عُنُقه يومَ القيامة، فبكى الرجلان، وقال كلٌّ منهما: حَقّي لأخي! (متفق عليه بأغلبه). هكذا الدنيا كلَّما ابتَسَمَت لِعُشّاقِها ازدادوا إِقبالاً عليها، فلا هي تَكُفُّ عن مُناداتهم ولا هُم يكفُّون عن الجَرْيِ وراءها! لقد سيق الأكثرون من الهالِكِين النادِمين إلى حَلَبَة الصّراع الـمُشين ولم يبْقَ خارجَها إلا الأقلُّون من الـمُتَعَفِّفين النّاجين! فإذا ابتُلِيتَ بالخِلاف على المتاع والسَّفْساف، فعليك أن تَخْتارَ العَفاف، وتَعافَ الإِسْفاف، وأن تترك التَّهالُك على الدنيا لِطلابها، وأن تَطرَح الجيفَةَ لِكِلابِها!