الشيخ نزيه مطرجي

إننا نعيش في دار المتاجرة والمنافسة، وإن الأعمالَ منها الفرائضُ وقد وقَع فيها تفريطُ الكثيرِ من العَوامّ، ومنها الفضائلُ وقد تكاسَلَ عن طلبها أكثرُ الأنام. لقد اقْتَرَنتْ شَهْوةُ المُنافَسة بِمرضِ الحسَد وبمرَض الكدَر، والحسدُ داءٌ قديمٌ رافَقَ البشَريَّة من فجْر مَولِدها من زمَنِ {أنا خيرُ منه خلقتَني من نارٍ وخلَقتَه من طين} ص-76؛ ومِن يومِ {إذ قرَّبا قُرباناً فتُقُبِّل من أحدهما ولم يُتَقبَّل من الآخر قال لأقتُلَنّك} المائدة-27.
إنه داءُ سوالِف الأُمَم قد دبَّ إلى خَير الأُمَم، ولن تجدَ معارِكَ المتخاصِمين حاميةَ الوَطِيس، متأجِّجَة اللَّهِيب مثلَ معارِك المُتَحاسِدين.
إن الّلذات الحِسِّية لا تخلو من مُخالطة الكُدُورات النَّفْسِيَّة، وهذه الكُدُوراتُ مَثلُها كمَثَل الأريجِ الزَّكِيّ، والصَّوْتِ الشَّجِيّ.
إن أشدَّ التحاسُد ما يَكون بين زُمَر الصَّنعةِ الواحِدة، والمِهنِ المُتَماثِلة، وأشَدُّ ما يكونُ بين الأقْرانِ مِن الأقارِب والأصحاب!
هؤلاء الأقوامِ ظالِمُهم يُثير الشَّفَقة مِثل مَظلُومِهم، وقد قِيل فِيهم: ما رأيتُ ظالماً أشبهَ بمظلومٍ من الحَسود، نَفَسٌ دائم، وهَمٌّ لازِم، وقلبٌ هائم! وقد قالَ الأديبُ الجاحِظُ في أمثالِهم: «مِن العَدل المَحْضِ والإنصافِ الصَّريح أن تحُطَّ عن الحاسِد نِصفَ عِقابه، لأنَّ ألَمَ جسَدِه قد كَفاكَ مَؤونَة شَطْرِ غَيْظِك»! والتُّجار يغلِبُ عليهم حبُّ الكَسْبِ والرَّغبة الغالِبة في رَواج السِّلعة، والشَّهوةِ الجامِحَة في جَمعِ الثَّرْوة!
ولكن البيئةَ الصالِحةَ التي عرَفَتْها أُمَّتُنا في الأسواقِ التي كانت تَجْمَع كلَّ صَنعة وحِرفة في سوقٍ خاصة بها قد أهْدَتِ البرِيَّة التَّوادَّ بدل التَّحاسُد، والإيثار بدلَ الاستئثار!
فقد نَجِدُ صورةَ الإيثارِ في مَواطِنَ ضيِّقةٍ من الحياة: أمُّ تُؤثِر طِفلها على نفْسها، أبٌ يُؤثر ولَده على نفسه، عاشقٌ يُؤثر المحبوب.. فإذا عامَل هؤلاءِ الناسَ الآخَرِين وجَدْنا مِنهُم أنانِيةً مُفرِطة! أما الصالِحون الذين يُتاجرون مع الله عز وجلّ، فهؤلاء يُؤْثِرون على أنفُسِهم أنّى وَجَدوا مَرْضاةِ اللهِ ولو كان بهم خَصاصة.
لقد حدَّث بعض الكُتّاب عن تُجار مكّة المُكَرَّمة في عهدِ الأشرافِ في الحِجاز، أن بعضَ التُّجار كان إذا أتاهُ زبونٌ في آخرِ النهار وقد باعَ ما يكفِيه لِقُوتِ يومِه، ولم يكُن زَميلُه التاجِرُ سعيدَ الحظِّ في ذلك اليوم، قالَ له في لطفٍ: دُونَك هذا الدُّكانَ الذي هو بِجِواري تَجِدُ عِندَه ما تجدُ عندي، وقد لاحظْتُ قِلّة الزبائنِ عنده هذا اليوم، فهو أحقُّ بأن تشتري منه!
وذكر بعض الكُتّاب عن تُجار دمشق في زمنٍ غير بعيد أنَّ أحدَهم يترك دُكّانه في عِهدة جارِه ومُزاحِمه كلما دَعَت الحاجة إلى التغيُّب، فإذا وقفَ زَبونٌ في بابِ دُكان الرجُل الغائب، تقدَّم التاجرُ المُجاوِر يسأل الزبونَ عن حاجَتِه ويبيعُ ما يطلُبُه مِنه من دُكّان جاره، ويترُك له الثمن على مَقْعَدِه مِن غير غَضاضَةٍ ولا حَسَد! 
ومن صُوَر الإيثار بين الأقارِب ما ذكَره الرسول صلى الله عليه وسلم عن قومِ أبي موسى الأشعري بقوله: «إن الأشْعَرِيِّينَ كانوا إذا أرْمَلوا بالغَزْو، أو قلَّ طعام عِيالهم بالمدينة جَمَعوا ما كان عندهم في ثوبٍ واحدٍ ثم اقتَسمُوه بينهم في إناءٍ واحد بالسَّوِيَّة، فهم مني وأنا منهم» (متفقٌ عليه). إن عامَّةَ المُتنافِسين الذينَ يعمَلون في صَعيدٍ واحد، يغُضُّونَ أبصارَهم عن النَّظَر إلى الكُنوز المَلأى التي لا تَغيضُ وبِحارِ النِّعَم التي تغمُر الدُّنيا وتَفِيض، وتَضيقُ صُدورهم فلا ينظُرون إلّا إلى ما في أيْدي نُظرائهم، من الاستئثار بكلِّ نِعمة ويشْتَهُون السَّبْق إلى كلِّ شُهرة!