الشيخ نزيه مطرجي

إن المؤمن الصادق يتحرّى الصِّدق ولو ظنَّ أن فيه الهَلَكة فإن فيه النَّجاة، ويتجَنَّب الكذب ولو ظنَّ أن فيه النجاة فإن فيه الهَلَكة، والصِّدق طُمأنينة والكذِبُ رِيبة، وقد بيّنَت السُّنة المُطهَّرة أن المؤمن يُطبَع على الخِلال كلِّها إلا الخِيانة والكذب.
ما كان من خُلُق أبغضَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب، ولقد كان الرجُل إذا اسْتَزَلَّه الشيطان بكِذبةٍ، يترُك فِعله في نفْس رسول الله صلى الله عليه وسلم أثراً لا يزول حتى يعلمَ أنه قد أحْدَث فيها توبة! فليس أرْوَح للمؤمن ولا أقرَّ لِعَينِه من أن يعيش بقلبه ومنطقه صادقاً لا يكذب، أميناً لا يخون، مستقيماً لا يهون.
لقد أعان الدِّينُ المؤمنَ على نفسِه الضَّعِيفة ومَلَكاته اللطيفة، فهَداه إلى اجْتِناب الكَذِب واتِّقاء الخِداع بما رخَّصَه له من مَعاريض الكلام كلما أكْرَهَتْهُ الضِّرورة، أو ألْجَأتْه الحاجة، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم قولُه: «إن في المَعاريض مندوحة عن الكذب» رواه البيهقي.
وذلك يُباح إن دعَت إليه مصلحة شرعية راجحة، أو حاجةٌ لا مندوحة منها إلاّ بالكذب، فيُشـرَع التَّعريضُ حينئذ لأن التعريض هنا أهونُ من التَّصريح، ومثالُ ذلك قولُ إبراهيم عليه السلام لقومه: {إني سقيم} عند خروج القوم لممارسة طقوسهم، وقوله: {بل فعلَه كبيرُهم هذا..} حين سألوه عن تكسير أصنامهم، وقولُه للملك الجبّار عن زوجته سارة: هي أختي!
ومن تطبيقات ذلك ما رُوي عن أبي بكر أنه سُئل عمّن معه أثناء الهجرة فقال: معي هادٍ، ففَهِم السائل أنه هادٍ يهديه الطريق؛ وكان قصد الصِّدِّيق الهادي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان معاذ بن جبل عامِلاً لِعُمر فلما رجع يوماً إلى بيته قالت له امرأتُه ولم يكن أتاها بشيء من المال: ما جئتَ لي بما يأتي به العُمال إلى أهلِهم؟ فقال لها: كان عندي ضاغط (أي رقيب)، فقالت: بعَث عمر معك ضاغطاً؟! وكان معاذ يقصد بالرقيب الله تعالى.
ومن أمثلة ذلك أيضاً أن النَّخْعي كان أحياناً إذا طلبه رجل قال للجارية: قولي له: اطلبه في المسجد، وكان الشعبي يخطُّ دائرة ويقول للجارية ضعي إصبعك فيها وقولي: ليس هُو ها هنا!
إن المَعاريض لا تُذَمُّ إذا احتيج إليها ما لم تخرُج من عُقُلها وتتفلّت من أزِمَّتِها، بل إن المسلمين يدْرأون بها الكذب عن أنفسهم.
بيد  أن التوسُّع في المعاريض، والغلُوّ في اللجوء إليها ينقُل المؤمن من دائرة الصِّدق الصُّراح إلى دائرة الكذب غير المُباح. إن كثيراً ممن نُعاشرهم أو نُصادِقهم يُدلِّسون في غالب أقوالهم، ويَخلُطون الكلام بالإبهام والإيْهام، فإذا تساءلتَ أهُم صادقون أم كاذبون؟ وجدتَ أنهم في منزلةٍ بين المنزلتين، وهم إلى السُّفلى أدنى، وفي برزَخٍ بين القبيح والحسن، وهُم إلى الأول أقرب، والقبيح لا يكون حَسَناً، والشَّرُّ لا يكون خيراً، وإنه لا يُجنى من الشَّوْك العنب. إن عامة أقوالهم: الله أعلم، ورُبَّما، وأظن، وهذا مُحتَمل، وبَين بين.. وما شاكل ذلك من كلماتٍ يُراد بها الغُموض والإلْغاز.
سأل عمر رجلاً عن شيء، فقال: الله أعْلَم! فقال عمر: قد شَقينا إن كُنّا لا نعلم أن الله أعلَم! إذا سُئل أحدكم عما لا يعلم فليقُل: لا أدري؛ وإن عامة أساليبهم التَّعريض والتَّورية... إن سألتَ أحدهم أحجَجْتَ بيتَ الله؟ يقول: بل سَلني كم مرة حججتُ! وذلك فراراً من الحرج لو قال: لم أحجَّ بعد! فيتوهّم السائل أنه قد أدّى الفريضة والنافِلة. إنه يدعوهم إلى ذلك ما أُشرِبَتْهُ نُفوسهم من فَساد، وما اعْتَلَّت به قلوبُهم من أمراض. ومن  اعتاد أمراً حتى صار له خُلُقاً وطَبعاً صعُبَ علاجه وعَسُر فطامه! فلا يزال يلازمُه في حياته حتى يُدرَج في قبره. ومَن كان هذا خُلُقه ينْفرُ منه الناس حتى أخِلّاؤه، فلا يثقون به إن تكلَّم، ولا يلتفتون إليه إن وعَد أو عاهد، ويَرَون أخباره كسرابٍ بِقِيعةٍ يحسَبُه الظَّمْآنُ ماءً.. بل يرَونه أخلَفَ في الوعود من عُرقُوب، وأشْهَرَ بالكذبِ من أولاد يعقوب!
فهذه حكاية الذي تكذِبُ سريرته، وتتظاهر بالصِّدق جارِحتُه. إن المؤمنَ التَّقي النقِيّ لا يعرف الكذب الظاهر ولا الخَفِيّ، خوفاً من ربِّه العليم العَلِيّ!