الشيخ نزيه مطرجي

إنَّ لكل امرئٍ وُجهة هو مُوَلِّيها، فالمؤمنون يستبقون الخيرات، ويصطَنِعون المبرّات، ويُسارعون إلى جنة عرضُها الأرض والسماوات. إن أعمال الخير بحرٌ عظيم غامِر، ساحِلُه الجود، ولُجَّته المعروف، وكنوزه البِرُّ والإحسان، وإن من مَحاسِن الأعمال الإحسانَ إلى مَن تحقَّقت حاجَتُه، وقَصُرَت قُدرته على امتلاك عينٍ تُعْوِزه، فلا يمكنه شراء العين لقلَّة ذات اليد، ولا الإجارة بسبب الفاقة، لذا كان مضطراً إلى أن يستعيرَ ما يفتَقِده سداً لحاجته، وتفريجاً لكُرْبتِه، فمن ذا يرجو؟ ومَن ذا يستجيب؟ ومَن من الناس يُجيب المضطرَّ إذا رجاه؟ ومَن تُطاوعه نفسه إذا أُحضِرت الأنفس الشُّحّ أن يَنْسلخ من عزيزِ ما تَملكُه يُمناه!
إن العاريّة تمكينٌ من الـمَنفعة، وهي إحدى صُور التكافل الـمُشرقة، بل هي من أعمال الخير والبِرّ التي تقتضيها الأُخُوة الصادقة، والرّوابط الوثيقة. إن الناس لا غنى لهم عن الاستعانة ببعضِهم، فالعاريّة هي إحدى سُبُل التعاون، والله تعالى أمر بالتعاون فقال: {وتعاونوا على البرّ والتقوى} المائدة-2، ولا أصل لمن يقول الـمُستعارُ عار، ولهذا سُمِّي عاريّةً، فإن الأنبياء والرُّسُل استعاروا الأشياء في عامة أحوالهم، فإنه قلَّ عندهم مُلك الأعيان، وقد ثبت في الصحيحَين أن النبي صلى الله عليه و سلم استعارَ فرساً من أبي طلحة، فركبها، واستعار دُروعاً من صَفوان بن أمية يوم حُنَين، فقال صفوان: أغَصْب يا محمد أم عاريّة؟ فقال: بل عاريّةٌ مضمونة» رواه أحمد.
إن العارية فِعلٌ مندوب، فإن فيها تمليكاً للمنفعة إلى زمنٍ مُعيَّن، ويُؤْمل أن يبلغ الـمُعير في إحسانه أعلى الأمرَين، وهو تمليك العَين.
وقد ذمَّ الله تعالى أقواماً لا يتصدَّقون بالأعمال فقال: {ولا يحضُّ على طعام المسكين} الماعون-2، ثم ذمَّهم بمَنْع المنافع بطريق الإعارة فقال: {الذين هم يُراؤون ويمْنَعون الماعُون} الماعون: 6-7، والماعون ما فيه عَونٌ لأخيه في حوائجه، وهو كلُّ ما يُنتَفَع به من شؤون البيت وغيره، وكلُّ ما يستعيره الناس في ما بينهم كالقِدر والدّلو والفأس والمركب والكتاب والسلاح.. والذين لا يتصدقون بالمنافع، ويمنعون العواريّ هم أشدُّ الناس شُحّاً، ترى أيديهم مغلولة إلى أعناقهم على الدوام، إذا دُعوا إلى الإحسان غَصَّت حُلوقُهم، وشرَقوا بِرِيقهم!
إن ذلك الخُلُق ليس من سجايا الأمة وشيَمها، بل هو عادة المجوس واليهود كما يقول العارفون، فالمجوس أحْرص الناس على حُطام الدنيا، ولِحِرصهم لا يتصدَّقون بالمنافع، ويمنعون العواريّ، واليهود أخَسُّ  طينةً وطبيعةً، فلا تمتدُّ أيديهم بالصدقات، لأن فيهم لؤماً وخساسة، وأما سادةُ المؤمنين فالقول فيهم: {ويُؤثِرون على أنفُسِهم ولو كانَ بهم خَصاصَة} الحشر-9.
وإذا أحبَّ الإسلام لمالِك العين أن يجود بتمكين المحتاج والـمُضطَّر من  الانتفاع بها، فإن على المستعير أن يفقه أن العاريّة أمانةٌ وليس عَطِيّة ولا هديّة، وأنه مؤتمنٌ عليها ومُكلَّفٌ بأدائها إلى صاحبها، فالله تعالى يقول: {فلْيُؤَدِّ الذي اؤْتُمنَ أمانته ولْيَتَّقِ الله ربه} البقرة-282، ويقول: {إن الله يأمُرُكم أن تُؤدّوا الأمانات إلى أهلها} النساء-58، والرسول صلى الله عليه و سلم يقول: «العاريّة مُؤدّاة» رواه أبو داود، ويقول: «على اليدِ ما أخذَت حتى تُؤدِّيه» المهذَّب.
ربما تُبتَلون بأقوامٍ يستهويهم استعارةُ الماعون، والاستمتاع بما يضمُّ من المتاع، فيَجحَدون ولا يُؤتَمَنون، ويستَمْلكون ما به ينتفعون، وإن شئتم حُقَّ لكم أن تشبِّهوهم بالمنافقين في بعض آياتهم كما جاء في الحديث الشريف: «وإذا اؤتُمِن خان» متفق عليه، وإن شئتم فاقْرِنوهم باليهود أهل الجحود الذين قال الله تعالى فيهم: {ومنهم مَن إن تأمنه بدينارٍ لا يُؤدِّه إليك إلا ما دمتَ عليه قائماً} آل عمران-75، فإنهم أشباه بعض اليهود، لا تحصلون منهم على عوارِيِّكم التي استأمنتموهم عليها إلا بما يُضني الجهود، بالمطالبة والملاحقة والملازمة! ثم تسليم الأمر إلى الكريم المعبود!
إنَّ مَن لا يُؤتَمن على حَقير الأعيان، لا يُستأمَن على عظيم الأثمان، ومَن يخونُ أمانةَ الحُطام فيتقلَّب على فِراش الآثام، ويبيت على إضاعة حقوقِ الأنام، ليس حقيقاً بأن يتشرَّف بِحَمْل أمانات الإسلام!