الشيخ نزيه مطرجي

لا تُحَمَّل النفسُ شيئاً أشقَّ عليها من الإخلاص، لأنه ليس لها فيه نصيب، ولكن الإخلاص في الأعمال بعضُه أيسَرُ من بعض. فقد يسهُل على المؤمن أن يُخْلِص النيّة في الصوم والصلاة والحجِّ والذِّكر.. ولكن يصعُب عليه أن ينجُوَ من شوائب الشِّرك الخفِيِّ حين يأمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين الناس، وحين يُخالط الناس أو يتولى أمورهم.
قال رجلٌ للرسول صلى الله عليه و سلم : يا رسول الله، إني أُريد وجهَ الله تعالى، وأرجو أن يُرى مَوطني، فلم يرُدَّ عليه النبي صلى الله عليه و سلم شيئاً حتى نزل قول الله تعالى: {فمَن كان يرجو لقاء ربِّه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرِك بعبادة ربه أحداً} الكهف-110 رواه الحاكم.
إن آفة طلب الصِّيت والشُّهرة هي صِنْوُ آفة الرِّياء، كلاهما شهوةٌ خَفيّة أخفى من دبيب النَّملة السوداء على الصخرةِ الصّمّاء في الليلة الظَّلماء، وهي أشدُّ الشهوات جُموحاً، يعجز عن الوقوف على غوائلها ومكائدها خاصة العلماء والدُّعاة، ناهيك عن عامّة الأتْقياء والهُداة. قلَّ من الأعمال ما لايكون للشيطان فيها نصيب وإن خفِيَ، وللنفسِ فيها حظّ وإن توارى. لذا فالصالحون يَبْذُلون العَطاء وهم خائفون وَجِلون أن لا يُقبَل منهم، يقول الله عزّ وجل: {والذين يُؤتُون ما آتَوا وقلوبُهم وجِلةٌ أنهم إلى ربهم راجعون} المؤمنون-60.
قالت السيدة عائشة: يا رسول الله هو الذي يسْرُق ويَزْني ويشْرب الخَمْر وهو يخاف الله؟ قال: «لا يا بنت الصِّدّيق، ولكنّه الذي يُصلي ويصوم ويتصدَّق، وهو يخاف الله عز وجلّ» رواه الترمذي.
يَغلِبُ على ظنِّ الأكثرين أن الزُّهد الذي ندب إليه الإسلام رَهينٌ بالـمَأكل والـمَشرب والـمَلبَس والمسْكَن.. إن هذا الزهدَ في شهوات الجوارح واللّذات هو بعض أنواع الزُّهد لا  كُلُّها، فهناك ما هو أعظم منها، ألا وهو الزهد في الجاه والرئاسة والصَّيت والشُّهرة، يقول الإمام ابنُ شِهاب الزُّهري: «ما رأينا الزهدَ في شيءٍ أقلَّ منه في الرئاسة، ترى الرجُلَ يَزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزِع في الرِّياسة حامَى إليها وعادى!» وهذا ما دفع الأتقياء من الأئمة والفُقهاء في عُهود السَّلف والخَلف إلى رفضِ الوظائف والولايات التي تُعرض عليهم، ويتعرَّض بعضهم إلى السجن والتَعذيب لأنهم أبَوا أن يتولَّوها.
يقول بعض الزاهدين: مُتَعَلَّق الزُّهد سِتة أشياء، لا يستحقُّ العبدُ اسمَ الزاهد حتى يزهد فيها، وهي: المال، والصُّوَر والرِّياسة والناس والنفس، وكل ما دون الله.
إن المتطلِّعين إلى المناصب والمراتب هم من أشد الناس ابتلاءً لأن اختبارهم لا ينجو منه أحدٌ إلا مَن اتقى الله وبرَّ وصدَق؛ فبعضهم يأتي يوم القيامة بأعمالٍ مِثل جبل تُهامة يجعلها الله كثيباً مَهيلاً، وبعضهم يَغدو عمَلُه في اليوم الآخِر كسرابٍ بِقِيعةٍ يحسبه الظمآن ماءً..
والذي يعمل ويُسمِّع ويَشهدُ في إخلاصه الإخلاص، يحتاج إخلاصُه إلى إخلاص!
نرى كثيراً من أهل الإيمان يعملون بذكاءً وإقدام، ولكن يفوتهم التجرُّدُ فيظلُّون في شاطئ الإخلاص واقفين، أو يخوضون فيه ضحْضاحاً ولا يَصلون إلى الغَمْر، فيَنْكُصون على أعقابهم خائبين.
ليس المهم كثرة الأعمال وطنطنة الأقوال، إنما المهم أن نَبْغِيَ بأعمالنا كُلِّها عبادةً أو معروفاً أو إصلاحاً أو مَشياً في حاجات الناس، راجين وَجْهَ الله واليومَ الآخِر، يقول الله عزّ وجل: {لا خيرَ في كثيرٍ من نجواهم إلا مَن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومَن يفعل ذلك ابتغاء مَرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عَظيماً} النساء-114.
فيا أيها الطامعون في الأَضواء، الـمُستشرفون إلى العَلاء، الداخلون طواعيةً أو كُرهاً في اختيار الصِّدق والرِّياء، لا تَبْنوا أُموركم على غير الصدق لِرَبِّ الناس، ومَن التَمس منكم الجزاء بالرياء فبِئس الالتماس!
فإذا ظَفِرْتَ ببعض هُواة الغُرور حَسِبتَهم أيقاظاً وهم رُقود، فِكرُهم مُظلمٌ وصِدقُهم مَفقود لله المعبود.
فاْنتَبِه فلن يَسْعدَ إلاّ الصادق النَّقِيّ، وكلُّ مَن عاداه فخاسرٌ شَقِيّ!