الشيخ نزيه مطرجي

إن رحمةَ الله تعالى غَلَبَت غضبَه، ومغفرتَه سبَقت عذابَه، فلا يَرْجُوَنَّ أحدٌ إلّا ربَّه، ولا يخافنَّ إلّا عذابَه.
إن عملنا مهما عظُم لا يُداني رحمة الله، وسَعْيَنا مهما بلغ لا يُكافئ غُفرانه: فالرحمة والغفران هما بِفَضْل الله لا بكَسْبِنا واستغفارنا، «ولو عاقَبَنا مولانا وعذَّبنا لعدَل فينا ولم يظلِمنا، فلا نجاة لنا إلا أن يتغمَّدنا الله برحمةٍ منه وفضل» أخرجه البخاري. ومن هنا يُعرَف السِّرُّ في أن العبادات والطاعات تُختَم بالاستغفار، في الصلاة بعد أن يُسلم الـمُصلّي، يستغفر الله ثلاثاً، ويدعو بالمأثور، وفي قيام الليل يختم المصلُّون القائمون الأسحارَ بالاستغفار فالله تعالى يقول: {كانوا قليلاً من الليل ما يَهْجَعُون، وبالأسحارِ هُم يستغفِرُون} الذاريات-17-18.
وفي الحج يأمر الله تعالى عباده بالاستغفار بعد الإفاضة: {ثم أفيضوا من حيث أفاضَ الناسُ واستغفروا الله} البقرة-199، وفي الوضوء شُرع للمتوضِّئ أن يختمَ وَضوءهُ بالتوحيد والاستغفار فيقول: «اللهم اجعلني من التوّابين واجعلني من المتطهِّرين».
لقد روى الحديث الذي أخرجه الحاكم قِصة الرجل الصالح الذي عبَد الله في جزيرةٍ خمسمائة عامٍ ثم يبعثه الله يوم القيامة وهو ساجد، ويقول لملائكته: «أَدْخِلوا عبدي الجنة برحمتي»، فيقول العابد: بل بعملي يا رب! فيأمرُ الله تعالى ملائكتَهُ أن يقايِسُوا بين نِعم الله على العبد وبين عمله فتُوجد نعمة البصَر قد أحاطَت بعبادة خمسمائة عام! وتبقى نِعَم الجسدِ كلُّها فَضْلاً عليه، فيقول الله تعالى: «أَدْخِلوا عبديَ النار!» فينادي الرجل: «يا رب أدخِلني الجنة برحمتك!» فيقول الله: «مَن خلَقَك من قبلُ ولم تكُ شيئاً؟ مَن قوّاك للعبادة؟ مَن أعطاك كذا وكذا؟ فيقول العبد: أنت يا رب، فيقول الله عزّ وجل: فذلك برحمتي، وبرحمتي أُدخِلُك الجنة»، ويأمر الله ملائكتهُ بأن يُدخِلوه الجنة، ويقول جبريل للنبي [: «إنما الأشياءُ برحمةِ الله يا محمد»!
إن الله تعالى هو الغنيُّ ذو الرحمة، وسِعَ ربُّنا كلَّ شيءٍ رحمةً وعِلماً، برحمته يهدي عباده إلى سبيل نجاتهم وسعادتهم، وبرحمته يُدخِلُ المؤمنين جنَّتَه، وبرحمته يَغفر للمُسيئِين، ويُؤمِّنُ الخائفين، ويُجيب دعوة الـمُضْطَّرِّين، ويَسمعُ الشَّجِيَّ والنَجِيّ، والـمَكلوم والمظلوم والسقيم والعليل!
إن لله تعالى مئة رحمةٍ، أنزلَ منها رحمةً واحدة بين الجنِّ والإنس، والهَوام والسَّوائم، فَبِها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها تعطِف الوَحشُ على ولدها، وأخَّر الله تسعاً وتسعين رحمةً يرحمُ بها عباده يوم القيامة (من حديث مُتُّفقٌ عليه).
نحنُ نعيش برحمة الله تعالى في صِحَّتنا وسَقَمنا، وغِنانا وفَقرِنا، وفرَجِنا وحُزننا، ويُسرِنا وعُسرِنا، ولو رُفِعَت عنا رحمة الله تعالى يوماً أو بعض يوم لتنغَّصَ منها العَيشُ، ولما أُغمِض لعينٍ جَفنٌ، ولما تنعَّمنا على الفُرُش، ولخرَجنا إلى الصُّعُدات نَجْأرُ إلى ذِي العرش!
إن حاجتنا إلى ذي العرش في المعاش والـمَعاد أعظمُ من حاجة الّلديغِ إلى تِرياقٍ الشِّفاء، ومن الأرض الـمَيْتة إلى غيثِ السماء؛
ومن هنا كانت الرحمةُ أجلَّ ما يُزيِّنُ أخلاقَنا وأعظمَ ما تجود به نفوسُنا، فإن قانون العدْل الإلهي الذي يقضي بأن الجزاء من جِنس العمل يدفعُنا إلى أن لا نتوانى عن الرحمة بمَن حولنا كالأرملةِ والمسكين واليتيم والفقير والطفلِ الصغير والشيخ الكبير، وأن نرحمَ الآباءَ والأُمَّهات وذوي القُربى وأولي الأرحام والأصحاب والأخِلّاء ومَن تحت أيدينا وسُلطاننا، فالرّاحمون يرحمُهُم الرحمن، وإنما يرحمُ الله من عباده الرُّحَماء! فاللهمَّ اجعلنا مِنهم!>