الشيخ نزيه مطرجي

إن الله تعالى لا ينظر إلى صُوَر العِباد وإلى الأشْكال والأمْوال، ولكن ينظرُ إلى القلوب والأعمال. والمؤمن مُتعبَّدٌ أن يَجْري في أمور دينه ودنياه على سنن الله، وأن يلتزم هدي مولاه في قوله وعمله، وفي وقت لهوِه وجِدِّه، ورضاه وغضبِه، وفَرحه وحُزنه. ولكن الناس قد أَلْهَتْهُم الأموالُ والبَنون وشَغلَتهم الدنيا والأهْلون، فهُم مُنْهَمكون إما بنعمة زائلة أو بلِيَّة نازلة أو منِيَّة قاضِية.
بَرزت لهم الدُّنيا بزهرتها وزينتها وفَتَنَتْهُم، فأَخْلدوا إليها ورَضوا بها حتى شَغَلتْهُم عن الذِّكر، وأذْهَلَتهم عن الطاعة، ونَسوا يوماً {تَذْهَلُ فيهِ كُلُّ مُرضِعةٍ عما أرضَعَت وتَضَعُ كلِّ ذاتِ حَملٍ حَملها..} الحج-2.
أكثَروا من الآمال وأحبُّوا طويل الآجال، ونسوا الموت والبَرزَخ وما وراءه من أهوال؛ جعلوا الدنيا همّهم والمعاشَ مقصودهم، وقد جاء في الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت الآخرة همَّه جمع الله عليه شملَه وجعل غِناه في قلبه وأتَتْه الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همَّه فرَّق الله عليه شَمْله، وجعل فَقره بين عَينيه، ولم يأته من الدنيا إلاّ ما قُدِّرَ له، فلا يُصبح إلاّ فقيراً ولا يُمسي إلا فقيراً» رواه الترمذي.
إذا التقى الناسُ في ما بينهم على اختلاف علائقهم وروابطهم، ففي أيِّ أمرٍ يتكلَّمون وفي أي حديثٍ يخوضون؟ في شأن دنيا أم في أمرِ دين؟ في ملذّات الفانية أم في سعادة الباقية؟ أفي هموم النفس أم في هموم الناس؟ لا جَرَم أن عامَّتهم قد استحوذَ عليهم الشيطان فأنساهم ذِكر الله، وصرفهم عن همِّ الآخرة، فظلّوا بعيدين عن شاطئه، أو خاضوا فيه ضَحْضاحاً ولم يصِلوا إلى الغَمْر، فهُم لا يَنْشُطون إلا لِجَرِّ مَغْنَم مَوهوم أو ترفٍ مَذموم؛ فأحاديثُ العبادِ لا تخرُج عن شؤون الحياة الدنيا ومَنافِعها ومَصالحِها: الطعامُ والشراب، والصِّحة والسّقام، البيع والشراء، الفقر والثراء، التملُّك والكِراء، اللغوُ والـمِراء، فضلاً عن الغيبة والنميمة، وفَضْح السَّوْءات وتَتبُّع العثرات، وآفات اللسان وفُضول الكلام، فضلاً عن الانغِماس في حَمْأة اللهو والنِّسيان، والغرق في تيّار الشَّهوة والعِصيان.
هل يأتي على الإنسان حينٌ من الدَّهْر يقول فيه الأخُ لأخيه: كيف قَلبُك عليّ؟ كيف دينُك؟ كيف صلاتُك وصدَقاتُك؟ كيف بِرُّك وإحسانُك؟ كيف عِيالك وكيف تجارتُك؟ كيف مشروعاتُك؟ كيف ثروَتُك وجاهُك؟ 
لِمَ لا يمنَح المؤمن نصيباً من مجالِسهِ مع أهله وأصحابه للحديثِ عن تلاوة القرآن وتدبُّره، والعملِ بأحكامِه وهَدْيِه؟ وعن الصَّلَوات في أول وقتها وعن صلاة الجماعة يُنادى بها؟ وعن الصلاة التي يغيب عنها المنافقون؟ وعن التصدُّق بالمال وفَضْل الزاد وإطعام الجائع، وإعانة الفقير ومواساة المريض وإغاثة الملهوف؟ والإشفاق عن اليتيم والمحروم؟ وعن بِرِّ الوالدَين وصِلة الأرحام؟ وعن تربية الأبناء وحقوق الأُخُوّة؟ وعن هَجْر المعاصي والـمُنكَرات، وتعظيم شعائر الله وكفِّ الجوارح، وكفِّ اللسان عن المعاصي والآثام، وعن التوبة وتكفير الذنوب والسيِّئات؟ وعن المغانم والمغارم، والـمُهلكات والـمُنجِيات، والإقبالِ على معالي الأمور وأشرافِها؟ وعن ترْكِ حقيرها وسفْسافِها؟ وعن زيارة المقابر ومجالس الذِّكر وقيام الليل؟
لقد غاب التناصح في الله والوَصيَّة بتقوى الله، وثَقُل على الصَّديق حَمْل النصيحة، وشقَّ على النَّديم قبولها، فهُجِر التَّواصي بالحقِّ والتَّواصي بالصَّبر، وولّى إهداء العيوب والـمُصارَحة في الهَنات والذنوب!
فكيف السبيل للخلاص من هذا التقصير؟ ومن يبدأ مِنّا فيبعث فينا هِمَّة مَوالينا؟ فالواصِفون لحالِنا أكثرُ من العارفين، والعارِفونَ أكثرُ من الفاعلين، والفاعِلون فاتَ زمانهم، والـمُجدِّدون قد جاء أوانُهم، فهل تَنهضُ منّا نُخبةٌ صالحون وصَفوةٌ مُجَدِّدون، فإننا نطمعُ والله بأن نكونَ منهم!