إنّ الزمن نِعمةٌ من أجلِّ النِّعَم، وكنْزٌ من أَنفَس ما يَمْلِكه ابن آدم، إنْ فاتَ لا يُستعاد، وإنْ ضُيِّع لا يُستعاض. يقضي الإنسانُ العُمر في الفارغ الذي لا يُجدي، والتافِه الذي لا يُغني، فإن ألَمَّ به مُصابٌ فإنه لا يَحزَنُ على فارطِ عُمُره، ولا ينوح على فائت دَهْرِه، ولكن يبكي على وَهَن قِواه، وتغضُّن الجباه، وانْتِكاس العافية!
إن الوقتَ رَأْسُ مالِك الثّمين، ولسوف تُسأل عن إنفاقك منه، وتَفريطك في إهدارِه، يقول الرسول صلى الله عليه و سلم: «لا تزولُ قدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمُره فيم أفْناه، وعن شبابه فِيمَ أَبْلاه، وعن ماله من أينَ اكتسبَه وفيمَ أنفقه، وعن عملِه ماذا قدَّم فيه». رواه الترمذي.
ولما كان الوقت بهذا القدر من النِّعمة فإن المفرِّط فيه قد أَلحَق بِنَفْسِه غُبناً لا يحول، وضُرَّاً لا يزول، والنبي صلى الله عليه و سلم: يقول: «نِعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس، الصِّحَّة والفراغ» متفق عليه.
إن الزمن لا يقف مُحايِداً كما يقولون، فهو إما صديق ودود أو عدوٌّ لَدود، وورد من كلمات الحسن البصري قوله: ما من يومٍ يَنشقُّ فَجْرُه إلّا يُنادي فيه منادٍ من قبل الحق قائلاً: «يا ابنَ آدم، أنا خلْقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد مني بعملٍ صالح، فإني لا أعود إلى يوم القيامة!».
لو قَدَّر المؤمن قيمة الزَّمن حق قَدره، ونزع من جَوْفه غِشاوة قلبه لَسَارَع إلى استباق الخيرات واصطناع الصالحات، واختار أن يكون مفتاحاً لخزائن الخير، ومِغلاقاً لمنافذ الشَّرّ.
ما أسعدَ العبدَ الذي يُقدِّم لآخرته، ويَصطفي من فضائل الأعمال ما يكون له أنواراً وبشائر في بَرزخه بعد موته، فيأتيه وهو في قبره رجلٌ حسنُ الوجه، حَسَنُ الثياب، طيِّبُ الرِّيح، فيقول: أبشِر بالذي يسرُّك، هذا يومُك الذي كنت توعد! فيقول له من أنت فوَجْهُك الوجهُ الذي يأتي بالخير فيقول: أنا عملك الصالح! فمن تأمَّل قِصَر العُمُر وطُول السفر، وهَول الخطر، فليكُن ضنيناً بالدقائق والساعات، ولْيأتِ من الأعمال ما يدوم ثوابُه بعد موته، ويَصْحَبه في قبره، تصديقاً لقول النبي المصطفى صلى الله عليه و سلم:: «إذا مات ابنُ آدم اْنقَطَع عمله إلّا من ثلاث: صدقة جارية أو عِلمٍ يُنتَفَع به أو ولد صالح يدعو له» رواه مسلم.
وهذه الأعمال والقُرُبات نجدها مبثوثة وضَّاءة في سُنَّة النبيِّ الأكرم صلى الله عليه و سلم: بالكَلِم الجامع، والبيان الـمُشرق، ومن ذلك قولُهُ: «مَن سرَّه أن يُبْسَط له في رِزقه ويُنسأ له في أثره (أي يمدُّ له في عُمُره) فلْيَصِل رَحِمَه» متفقٌ عليه.
ومِن ذلك قول النبي صلى الله عليه و سلم:: «سبعٌ يَجري للعبد أجْرُهنَّ وهو في قبره بعد موته: مَن علَّم عِلماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بِئراً أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مُصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته» أخرجه ابن ماجه.
ولا يفوتنا حديث «مَنيحة العَنْز» الذي جمعَ فأوعى، وهدى القلوبَ إلى أربعين خصلة من الخير، وندَب الهِمم إلى التشمير للبحث عنها، والمسارعة إلى العمل بها رجاء ثوابها وابتغاء مَوْعودها الذي ليس دونه إلّا جنّات النعيم، فقد ورد في السنة قول النبي الأكرم صلى الله عليه و سلم:: «أربعون خصلةً من الخير أعلاها مَنيحة العَنْز، ما من عامل بعمل بها بخصلةٍ منها رجاء ثوابها، وابتغاء موعودها إلاّ  أدخله الله بها الجنة» رواه البخاري.
وإذا تأمَّلت في هذه الأربعين الموجبة للجنة، وفي الفضائل الأخرى التي تمدُّ في الأجل أدْرَكْتَ سِرّ قيمتها، وسبب فَضْلها، وذلك لأن جُلَّها يتعلق بصنائع المعروف، التي تروم الإحسان إلى العباد، وحُسنَ مُعاملتهم، والسَّيْر في حاجاتهم، واْلتماس الخير والنفع لهم، فمن مقاصد هذا الحديث الذي اجتهد العلماء في تتبُّعها وإحصائها وإرشاد المؤمنين إليها: إماطة الأذى عن الطريق، عيادة المريض، الإمساك عن أذى الناس، إعانةُ المغلوب المظلوم، الأمرُ بالمعروف والنَّهْيُ عن المنكر، بَذْلُ النَّصيحة، إرشاد الضَّالّ، هداية الأعمى، إسماع الأصمّ، التعبير عن الأرَتِّ (الذي لا يُفصِح في الكلام)، سَقْيُ الماء، إيناس الوَحْشان، إنظار الـمُعسِر، السّماحة في البيع والشراء، وفي القضاء والاقتضاء.. فهذه الخِصال الموجبة للجنة صنائع لا يخوض بها المؤمن حرباً، ولا يقصد مِحراباً، ولا يُحرِّم على نفسه بها طعاماً ولا شراباً، ولا يشدُّ بها الرِّحال مُتَيَمِّماً بيتاً حراماً، وروضة ومقاماً، راجياً عفواً ومَتاباً، ولا يعتزل بها البشر شاكياً ألَماً واضطراباً، ولكنها قُرُبات تَغشى الناس، وتُخالِطهم، عنوانها: {وافعلوا الخير لعلكم تُفلِحون} الحج-77، وشعارها: «مَن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» متفق عليه.>