الشيخ نزيه مطرجي

في صَحبنا عُقلاء فُضلاء، وظُرفاء نُدماء، وثُقلاء سُمجاء؛ أما العُقلاء فهم كالغذاء أو الدواء، لا يُستَغنى عن صُحبَتهم، ولا يُزهد في رأيهم، ومَثَلُهم كحامل المِسك، إما أن يُحذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجدَ منه ريحاً طيِّبة. وأما الظُّرَفاء فسَلوَةٌ لك في الأحْزان، وجَلْوَةٌ في الأكْدار، وأما الثُّقلاء، وهم مدار البحث، فمُجالستُهم داءٌ مَرير، ومُخالطتهم عذابٌ وبيل!
الثقيل يُجاهر بالعيوب، فلا أرَبَ له في الأدب، ولا نصيبَ له في الحياء، ومَن لا يعرف الأدب، وبخاصّة أدب الحياء، فإنه يُجافي سُنَن الإسلام، وهَدي المصطفى عليه الصلاة والسلام.
لقد نزلت في القرآن الكريم آيةٌ في الثُّقلاء، كما يقول الحسن البصري، وذكَرَهم الله في قوله: {ولكن إذا دُعيتم فادخُلوا فإذا طَعِمتم فانتشروا ولا مُستأنسين لحديث إن ذلكُم كان يُؤذي النبيَّ فيستحْيِي مِنكم والله لا يستحْيِي من الحق} الأحزاب-53، فقد كانوا يجلسون بعد الأكل، ويتحدثون طويلاً، وكان ذلك يؤذي النبيَّ، ويستحْيِي أن يقول لهم: قوموا، من حُسن أدبه، فعلَّمهم الله تعالى الأدب.
إن المؤمن مُطالَبٌ بأن لا يكون ثقيل الظِّلِّ على أحد من إخوانه أو غيرِهم، ففي ذلك أذىً لهم وتكدير لنفوسهم، وقد رُوي أن أبا هريرة رضي الله عنه إذا استثقَل رجلاً قال: اللهم اغفر لنا وله وأرِحنا منه! وكان حَمّاد بنُ سَلَمة إذا رأى من يستثقله قال: {ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون} الدخان-12. وقد قيل: إن الثقيلَ أثقلُ على الإنسان من الحِمل الثقيل، وعلَّة ذلك أن الثقيل يقعد على القلب، والقلب لا يحتمل الرأس والبدن من الثِّقَل!
الثقلاء قلَّ ماء وجوههم ففَقَدوا الحياء، وانتُزع الأدب من سُلوكهم، فأحلّوا قومَهم دار البلاء!
إن سماجتهم تكمن في المبالَغة في زيارتهم وطول مكوثهم، وفي مَطْعَمِهم ومَشربهم ومَطلبهم، وفي كثرة كلامهم وهَذَرِهم، فإن من الأدب أن يميل المؤمن إلى العدل والتوسُّط في زياراته، وغِشيان مجالس إخوانه غيرَ مُقِلٍّ ولا مُكثِر، فإن تقليل الزيارة داعية الهِجران، وكثرتها مَسَبِّبةٌ للسآمة، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي هريرة: «زُر غِبّاً تَزددْ حٌبّاً».
والثقلاء يُسابِقون الأصحاب والخِلّان في طلب المصالح، ومن الغريب أن الناس يجتنبون بأسَهُم وغِلظَتهم، ويخطُبون وُدَّهم، فيُسالمونهم ويسكتون عن قبائحهم! وهذا ما يُغريهم فيتيهون دلالاً ويزدادون على سوء الفِعال إقبالاً!
إنه لا أملَ بالشِّفاء من خُبث الداء إلا بالاغْتِسال بماء الحياء النقِيّ، فالحياء زَينٌ وهو حِليةٌ السّجايا، وزينة الأخلاق، وجاء في الحديث الشريف: «إن لكل دِينٍ خُلُقاً، وخُلُق الإسلام الحياء» رواه ابن ماجه.
وعُلِم من خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم أنه «كان أشدَّ حياءً من العذراء في خِدرِها، فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه في وجهه» متفق عليه.
ومن ميزات هذا الخُلُق أنه من مواريث النبوّة الأوَّل، فقد جاء في الصحيح: إن مما أدرَك الناس من كلام النبّوّة الأول: «إذا لم تَسْتَحِ فاصنع ما شئت» متفق عليه.
فمَن ألقى جلباب الحياء وتعرّى من آدابه لا يسْتَحْيِي من العَيْب ولا يَخشى اللَّوم؛ ويصنعُ كلَّ ما تُحدثه نفسه من أهواء وشهوات، حَسَناً كان أم قبيحاً، مقبولاً أم مرذولاً!
فيا أيها الثقلاء! داؤكم مذموم، ودَواؤكم مَعلوم، وغريمُكم مَكلُوم، وقد نفَّرتُم مَن حولَكم، وآن لكم أن تنفِروا إلى هَدي ربِّكم وسُنَّةِ نبيِّكُم! فهل أنتم فاعِلون؟}