الشيخ نزيه مطرجي

إن الله تعالى اسْتَقْرضك مالَك الذي تَجمع، وضَمِن لك ثمارَ الجنّة بما تَزرَع، وكره لك أن توصِد الخزائن التي تَمنع، فحتّام يُناديك مولاك وما تسمع، وتُمسك الفضل من المال وما تطّوّع؟
وا عجباً لرجل كلما تقدم به العمر زاد حِرصه وطال أمله، وإذا دُعي إلى الإنفاق على ذوي الإمْلاق عَبَسَ وبَسَر، وأعرضَ واسْتَكبر!
إن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يُسارعوا إلى فِعل الخير، وإنفاق المال الذي جعلهم مُستَخلفين فيه، قبل أن تحِلَّ ساعةُ الأجل ويُعاينوا أمارات الموت ونُذُر الفِراق، والله تعالى يقول: {وأنفِقوا مما رزَقْناكم من قبلِ أن يأتي أحدَكُمُ الموتُ فيقولَ ربِّ لولا أخَّرتَني إلى أجلٍ قريبٍ فأصَّدَّقَ وأكُن من الصالحين} المنافقون-10، لذا كان  أفضل الصدقة في حال الصحة والسَّلامة، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «أن تَصّدَّق وأنتَ شحيحٌ صحيح تأملُ البقاء وتَخشى الفقْر، ولا تُمهل حتى إذا بلغَت الحُلقوم قلتَ: لفلانٍ كذا وكذا، وقد كان لفلان» متفقٌ عليه. عجباً لمن يُمضي عُمُره قابضاً أصابعه كأنها قُطِعَت، غالّاً يده إلى عُنقه كأنها شُلَّت، ويترُك أمواله مخزونةً وقد أكلها السوس، وتعرَّض لها الّلصوص، حتى إذا دنا الأجل وظنَّ أنه الفراق، اندَفع للتصدق والإنفاق، وإلى الوصيّة ووقفِ المال!
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «الذي يَعتِقُ عند الموت كمثل الذي يُهدي إذا شَبِع» (التبصرة)؛ وقيل لميمون بن مهران: إن فلاناً أعتق كلَّ مملوكٍ له عند الموت فقال: يعصون الله مرَّتين: يبخلون به وهو في أيديهم حتى إذا صار لغيرهم أسْرفوا فيه!
كم من أبٍ ذي نُعمى وثراء وأبناؤه يمسُّهم البؤس والشَّقاء! ينشدون الدرهم والدينار من ربِّ الدار، ويرجون الرحمة والمدد من الوالد للولد؛ بعضهم يرومُ طلبَ العلوم، وبعضهم يُريد العِفّة ويقصدُ المـُباح بطلب النِّكاح، وبعضهم يطلب العَون لتأمين المعايش لأطفاله الرُّضَّع وصغارِه الرُّتَّع، لأنه يَعجز عن أن يُطعِمهم من جوعٍ ويَسقِيَهم من ظَمأ ويكسوهم من عُري!.. وبعضهم لا يملك مسْكناً ولا كِراءً! فلا يستجيب الوالد الكبير ظناً منه أنه يقع في العصيان إذا فرَّق بين الوِلدان، وتوهُّماً منه أن إعطاء المال لمن تجاوز سنَّ الرَّشد أو خرج من كنف الأهل لم يحلّ لمثله أي عونٍ من أهله!
إن العدل بين الأولاد في الإسلام يكون في المعاملة والعاطفة، والتفاضل بين الأولاد جائز إن كان له سببٌ مُلجئ كأن يحتاج المريض منهم إلى طبابة والزَّمِنُ إلى رعاية، وطالب العلم إلى المال والمسافر إلى النفقة وكثير العيال إلى الإعالة..
إذا عدنا إلى أحكام السنّة وتاريخ الأمة وجدنا أن السُّلطة مُكلفة بتأمين الحاجات الأساسية للرعية كما يتبيّن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَن وَلِي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً، أو ليس له دابة فليتخذ دابّة» رواه أحمد. إن السُّلطة مسؤولة عن تحقيق كفاية الموظف للقيام بعمله باستقرار وأمان؛ فما الذي ينأى بالوالدين عن إقامة هذه القاعدة في أولادهم، فِلذات أكبادِهم بإعطاء كلٍّ حاجَته في حينها وأوانها؟
إن عاطفة الأبوين نحو الأبناء من الجنسين تَسْري في حنايا الصدور وشِغاف القلوب، وتجري في دماء العروق، فلا تَبخَل بالدينار والدرهم قبل أن تأكلك الحسرة ويُعذِّبَك النَّدم.. إنك إن لقيت المنون لم ينفعك  مالٌ ولا بنون، فما يصنع بالقناطيرِ الـمُقَنْطرة عابرُ هذه القَنْطرة؟ (الدنيا).