الشيخ نزيه مطرجي

المؤمن مفطورٌ على طلب الخُلَّة ومَطبوعٌ على التعاون والأُلفة، فهو يهيمُ في اختيار الإخوان واصطفاء الخِلّان؛ وقد أرشد النبي صلى الله عليه و سلم إلى حُسن الانتقاء في قوله: «المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم مَن يُخالِل» رواه أبو داود والترمذي.
إن من دواعي الأُلفة أن يكون بين الصاحِبَيْن مُشاكَلة في الطِّباع، ومُناسبةٌ في الأخلاق والآداب، وقد ورد في الحديث الصحيح: «الأرواح جُنودٌ مُجنَّدة فما تعارف منها ائتَلف، وما تناكَر منها اختلف» رواه البخاري.
إن أرواح العباد ونفوسهم جنودٌ مجتمعة، فالتي بينها تعارفٌ وتشاكُل يَألف بعضها بعضاً، ويسعد بلقائه لاتّفاق الطباع وتقارب الأرواح، أما التي بينها تناكُر وتباين فإنها تختلف ويَنفِرُ بعضها من بعض، فلا يُسرُّ باللقاء ولا يَنْجذبُ إليه.
ورد في السنة النبوية أن امرأةً مزَّاحة كانت تعيش في مكة، فجاءت إلى المدينة المنورة فنزلت على امرأة مثلِها، فبلغ ذلك عائشة رضي الله عنها، فقالت: صدق حِبي رسول الله صلى الله عليه و سلم سمعته يقول: «الأرواح جنود مجندة..» أخرجه الحسن بن سفيان. وإذا تصاحب المتناكران آل أمرُهما مهما طال الزمن إلى الشِّقاق والافتراق، يقول الشاعر:
وقائلٍ كيف تفارقتُما فقُلتُ قولاً فيه إنصافُ
لم يكُ من شكلي ففارقتهوالناس أشكالٌ وأُلّافُ
وإذا ظفر أحدٌ بصاحب استكمل شُروط الصُّحبة فتآخت الأرواح واتفقت الطباع فعليه أن يعضَّ على هذه الصداقة بالنّواجذ، فلا ينبغي أن يُفرِّط في علاقته ولا يزهد في لقائه، ولا يقطع حِبال مودَّته، وإنّ من دواعي حلِّ أواصر المودّة أن يُنقِّب عن زلّاته ويبحث عن هفواته، فإن أراده مُتجرِّداً من كل عيبٍ فقد رام مستحيلاً! يقول النابغة الذُّبياني:
ولستَ بمُستَبْقٍ أخاً لا تلُمُّه
على شعثٍ أيُّ الرجالِ الـمُهذَّبُ!
إنّ مَن نَحا هذا الـمَنْحى في المجاوزة عن الهفوات، والإغضاء عن الأخطاء والمجاوزة عن الزَّلّات فقد أراح نفسه من عناء العِتاب، وأنزل عن عاتقه أثقالاً من الهموم تنوءُ بها الشُّمُّ الرّاسيات. وإذا ساقك القَدَر إلى جوار صديق لا يبادلكَ المودة والأُلفة بل ينفر منك ويُعرض عنك فدعه ولا تُشقِ فُؤادَك في صداقته، يقول الشاعر:
إذا المرء لا يَلقاكَ إلّا تكَلُّفاًفدَعْهُ ولا تُكثر عليه التأسُّفا
فما كلُّ مَن تهواه يهواك قلبُهولا كلُّ مَن صافَيْتَهُ لكَ قد صَفا
فكلُّ امرئ يأوي إلى شاكلته كما أن كل طير يطير مع جنسه.
يقول مالك بن دينار: أجناسُ الناس كأجناس الطير، ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلاّ وبينهما مناسبة؛ فرأى يوماً غراباً مع حمامة فتعجّب من ذلك فقال: اتَّفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعْرَجان، فقال: من هاهُنا اتَّفقا!
ورد في الخبر: «لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائةُ منافق ومؤمنٌ واحد لجاء حتى يجلسَ إليه!».
ألا ليتَ كلَّ إِلْفٍ يهتدي إلى أليفه فيكون له أنيساً في السَّراء، وعَوْناً في الضَّراء، وناصحاً عند استقبال القضاء، وتلك هي الصُحبة الحق وما عداها فهباء أو رياء!
إن التراحم بين الأصحاب والخِلّان هو من العلائم الدالّة على صِدق الإيمان ومِن الأسس التي ينهض عليها البُنيان، فكأنَّ المتراحمين أغصانٌ مُزهِرة انبثَقَت من دَوْحة واحدة، فكيف يَنشُد الأُخوَّة مَن خَلا قلبُه من الرَّحمة؟>