الشيخ نزيه مطرجي

الإسلام هو دين اليُسر والسُّهولة والسماحة، جاءت تكاليفه مُوافقة لفِطرة البشر وغرائزهم، غيرَ زائدة على طاقتهم وقُدرتهم، وقد بعث الله نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وكلّفه بأن يضع عنهم إصْرَهم والتكاليف التي تُحاكي بشِدَّتها الأغلال، وتَعدِل بثقلها أوزان الجبال، كَقتْل النفسِ في حالِ التوبة، وقطعِ موْضِع النَّجاسة من الثوب، والقِصاصِ من القاتل سواء أكان القتْلُ عَمْداً أم خطأً!
لقد اتَّسمت شريعة الإسلام بهذه الخصيصة الفريدة المجيدة التي أوضحها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «بُعثْتُ بالحنيفيَّة السَّمحة، ليلُها كنهارها» أخرجه أحمد.
ومَن يتَّبِع الشريعة في عظيم الأمور ويسيرِها يجدُها قد أُسِّسَت على نهج التيسير على العباد، والترفُّق بالأتْباع.
لمّا بعَث النبي صلى الله عليه وسلم أبا موسى الأشعري ومُعاذ بنَ جبل إلى اليمَن أوْصاهما بالتَّياسر والتَّطاوع فقال: «يسِّرا ولا تُعسِّرا، وبشِّرا ولا تُنَفِّرا وتَطاوعا ولا تختلِفا» متفق عليه.
وفي الشريعة أمثلةٌ يصعبُ على المتعجِّل استعراضها، وذلك لكثرة التطبيقات العملية المؤسَّسة على اليُسر والتسامح: ففي الصلاة: «مَن نام عن صلاة أو نسِيَها فلْيُصلِّها إذا ذَكَرها»، وفي الصوم: «مَن نَسِيَ فأكل أو شرِب وهو صائم فلْيُتِمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه» رواه ابن ماجه.
وفي الحج: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بِمِنى، والناس يسألونه، يقول رجل: يا رسول الله إني لم أشعُر فحلقتُ قبل أن أنْحَر، فيقول له الرسول صلى الله عليه وسلم: «إفعل ولا حَرَج»، فما سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ، قُدِّمَ أو أُخِّر إلا قال: «إفعل ولا حرَج»، وفي إمامة صلاة الجماعة يُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: «إني لأقوم في الصلاة وأنا أريد أن أطوِّل فيها، فأسمعُ بُكاء الصبيّ فأتجوَّز في صلاتي كراهية أن أشُقَّ على أمه»! أخرجه البخاري.
وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ، وقد علِم أنه يُطيل في إمامة صلاة الفجر، «أفتَّانٌ أنتَ يا مُعاذ! أفتّان أنت! فلولا صلَّيت بـ{سبِّح اسم ربك الأعلى}، و {والشمس والضحاها}، و{والليل إذا يغشى}، فإنه يُصلّي وراءك الكبير والصغير وذو الحاجة» أخرجه البخاري. وبفضل هذه السماحة رَفَع الإسلام القلم عن المسلم في حال الخطأ والنِّسيان والاستكراه، كما جاء في الحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرِهوا عليه» أخرجه الطبراني.
إن المؤمنين الذين يتذوّقون حلاوة الرحمة الإلهية، ويتفيَّؤون ظِلال اليُسْر الرَّباني لا يليق بهم إلاّ أن يتأثروا بهذه النعمة، وأن يتشبَّعوا بروحها، ويكتسبوا فضائلها، فينتج من ذلك مُياسرةٌ في طباعهم، ودماثةٌ في أخلاقهم، وسهولةٌ في سُلوكِهم، وسماحةٌ في مُعاملاتهم؛ كما جاء في التنزيل الحكيم: {فإن مع العُسر يُسراً، إن مع العسرِ يُسراً} الشرح-5؛ وجاء في الروضة النبوية: «لن يغلب عسرٌ يُسرَين» أخرجه البخاري.
فالآيات البينات تُوحي إلى المؤمن بأن يأخذ نفسه بالتَّياسُر والـمُلايَنة مع الناس، كما أن سُنّة التأسّي بالقدوة الأعظم الذي يسره الله لليُسرى تهتف به بأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم بيُسْرٍ ولُطف.
إن من تطبيقات التَّياسُر في حياة المؤمن إنظارُ الـمُعسِر، والتلطُّف مع الغريم وصولاً إلى إسقاط بعض الحقوق عنهما، فإن «مَن نفَّس عن غريمه أو عفا عنه كان في ظلِّ عرش الله يوم القيامة يوم لا ظلَّ إلاّ ظِلُّه» أخرجه مسلم.
ومن ذلك وَصْلُ الأرحام وذوي القُربى وإن بادلوه بالقطيعة والجفاء، فليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطِعت رَحِمُه وصَلها!
ومنها إجابة الـمُعتذر إلى طلب اعتذاره، وعدم صدِّه وخِذلانه، «فإن مَن اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مِثلُ خَطيئةِ صاحب مَكس» (وهو نوعٌ خبيث من نهْب المال) رواه ابن ماجه.
ومنها أن يكون سَمْحاً إذا باع فلا يكون شحيحاً بسِلعته، مغالياً في ربحه فظاً في مُعاملته.
إن قيام أمر الدين على قاعدة التيسير قد استوعب كل صور العبادات والمعاملات، فحذار من جَعْلها مَطيّة لأهل الأهواء، ومُتَّبعي الشهوات، فطوبى لقومٍ فُطُنٍ أصغَوا إلى داعي الحق واجتنبوا الفِتَن، فأدرَكوا فِقه التيسير في الدنيا والدين، فإنما بُعثتم مُيسِّرين!>