الشيخ نزيه مطرجي

إن الله تعالى يجزي العباد بأعمالهم إنْ خيراً فخير، وإن شرّاً فَشَرّ، فـ{يجزِي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزِيَ الذين أحسَنوا بالحُسنى}، ولكنّ المحسنين المكرَّمين بأعظم الإحسان من ربِّ العالمين ليسوا ملائكةً أُولي أجنحة لا يعصون الله ما أمرَهم، ويفعلون ما يُؤْمَرون، وليسوا أنبياء معصومين عن السيئات، ولا مؤَّيدين بالوَحي وخوارِق العادات،  وقد وصفَ الله تعالى حالَهم بأنهم {الذين يَجْتَنِبُون كَبائرَ الإثمِ والفواحِشَ إلاّ اللَّمم} النجم-32. فالـمُحسنون على بديع وصفهم وعُلوِّ منزلتهم يقعون في الصغائر ويقترفون الَّلممَ من الذُنوب.
إنه لا يسْلَم من الوقوع في الَّلمم إلاّ مَن عصمه الله من المرسَلين إلى الأمم؛ وقد عرَّفوا الَّلمم بأنه صغائر الذنوب، كالنظرة والغمزة، واللمس والمصافحة، وجاء في الحديث: «إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزِّنا، أدرَك ذلك لا محالة، فَزِنا العَيْن النَّظر، وَزِنا اللسان النُّطق، والنفس تتمنّى ذلك وتشتهي» متفق عليه، ويُكمِل هذا المعنى الحديث الآخر: «العينان زِناهما النظر، والأُذُنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البَطْش، والرِّجْل زناها الخُطى» أخرجه مسلم. وقد بيَّن النبيُّ الكريم صلى الله عليه وسلم بما يدلُّ على أن الَّلمَم من أعمال بني آدم فقال:
إنْ تَغْفِرِ اللهمَّ تغْفِر جَمّا وأيُّ عبدٍ لكَ ما ألَمّا
والَّلمم كلُّ ذنب لم يذكر الله له حَدَّاً في الدنيا  ولا عذاباً في الآخرة، فذلك الذي تكفِّره الصلواتُ الخمس ما لم يبلغ حدَّ الكبائر والفواحش، ويدلُّ على ذلك قولُ النَّبِي الكريم صلى الله عليه وسلم: «الصلواتُ الخمس والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مُكفِّراتٌ لما بينهنَّ ما اجتُنِبَت الكبائر» أخرجه مسلم. أما الكبيرة فكُلُّ ذنبٍ خَتَمَهُ اللهُ بنارٍ أو غضبٍ أو لعنةٍ أو عذاب. ولكن لمم الذنوب وإنْ صَغُر لا يَدفع إلى جَوازِ هَوَانه على المؤمن، فقد حذَّر نبي ُّ الرحمة الحريص على الأمة من مُحقِّرات الذنوب لعِظم خطَرها، إذا ترادفت على المؤمن فقال: «إيّاكم ومُحقِّراتِ الذنوب فإنهُنَّ يجتَمعنَ على المرء حتى يُهلِكْنَه» أخرجه أحمد.
ويبدو الفَرْقُ جلِيّاً بين مُجتَرِح السيِّئات الـمُستَهْتِر، وبين الورِع الحذِر، فإن الذنوبَ تكبر في عين الكبير صِغارُها، وتصغرُ في عينِ الصغيرِ الكبائرُ.
ومن غريبِ المعْهُود في الحياةِ أن الناس رُغمَ كونهم سواسية في افتقادهم إلى العِصمة من المعصية، يستهينون بكل إثم تكسبه أيديهم، ويستعظِمون كلَّ وِزرٍ يزِرُه غيرهم! فإذا كان فِعلُ الَّلمم ظاهراً للعيان، وكان فاعله ذا شهرة ومنزلة بين الأنام، تداعى عليه الحُسّاد والفُساق، والخصوم والرِّفاق، واستحلُّوا عِرضه بالطَّعْن والتَّجْرِيح، وبالأذى والسَّفه الصريح، وأوْغَلوا في اتِّهامه، وغالوا في تصوير عيوبه وأخطائه، فرأوا اللمم جريمة لا تُغتَفر، وعدّوا المحقِّرات من الموبقات، وجعلوا الصغائر في سجلِّ الكبائر.
ولو قُدِّر لنا أن نَزِنَ بميزان القِسط وِزْرَ الذي ألمَّ باللمم، لوجدنا أن على المتَّهم إثمَ ما يحتقر من الذنوب، وأنه بالصلاة والاستغفار يَغفِر له علّام الغُيوب، وإذا كان وِزرُه بينه وبين الله ولا يتعلق بظلم العباد، فقد تسبِق مغفرةُ الله له كلمات الألْسِنَة الحِداد، والأهاجيَّ الشِّداد، أما المدَّعي فذنبه يرتفع إلى درجة الكبائر من الذنوب والمعاصي، والمَلَك على يسارِه حاصٍ، فليرتقِب يوم يُؤْخَذ بالأقدام والنَّواصي فعجباً والله! المؤمن المشفِق على أخيه المذنب يكسِب خطيئة كبرى غضباً لله في مواجهة خطيئة صُغرى! وقد ورد في الحديث الصحيح: «إن مِن أرْبَى الرِّبى عند الله استحلالُ عِرْض امرئٍ مُسلم» أخرجه ابن أبي حاتم؛ وأيُّهما أشدُّ في الخطيئة إثماً، وأكبر عند الله مَقتاً؟!
إن الدَّهماء في نظرتهم إلى الناس يَميلون إلى أن يستكبِروا الصغائر ولا يملكونَ الموازين القسط التي لا تُظلَم بها نفسٌ شيئاً.
إن الله تعالى لم يشرِّع لك أن ترصُدَ أفعالَ العِباد وتُحاكِمَهم بذوقِك وقِياسِك وهَواك، ولكن شَرَع لكَ ربُّك أن تنصَح إخوانك لله ورسوله، فالنصيحة تروم التقويم والإرشاد، والمحاكمة تبغي التجريح والإفساد. وإذا أردتم أن يُقلِع صاحبُكُم عن زلّاته فلا تتوسَّلوا المبالغة في الأحكام والخشونة في الكلام، فإنه والله أوخّزُ من وقع السِّهام، وأشدُّ من ضرب الحُسام!
فإياك أن تكون ممن يُحاسِبُ على الَّلمم، وهو من الفاعِل أظلَم ومن الُّلؤمِ ألْأَمْ !