الشيخ نزيه مطرجي

إن الله تعالى فاضَل بين عباده في العقول والأفهام، وفاوَتَ بينهم في الأرزاق والأموال، وجعلهم في المعايِش درجاتٍ ومراتب {ليتَّخذَ بَعضُهم بعضاً سُخْرِيّاً} الزخرف-32، فَيخدِمُ بعضُهم بعضاً، وينتفع بعضهم من بعض؛ وبِذا ينتظم أمر الحياة، ولو كانوا سواءً في الأحوال والأموال لما خدم أحدٌ أحداً، ولما ارْتَفَق بعضهم من بعض، ولَأفضى ذلك إلى فساد الحياة. لذا قضت سنة الحياة في عباده بأن يكونوا «بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ». والله تعالى بحِكمته يُنزِّل بقدرٍ ما يشاء، وفي ذلك يقولون: قد تَلقى ضعيفَ القوة، قليل الحيلة، عَيِيَّ اللسان، وهو مُوسَّعٌ عليه في الرِّزق، وتَلقى شديد الحيلة، بسيط السان، وهو مُقتَّرٌ عليه في الرَّزق، وفي هذا يقول الإمام الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكَونِه   بُؤسُ اللَّبيب وطيبُ عيشِ الأحمقِ
ولكن هذا التفاوت الواقع بين البشر بأمر الحَكَم العَدل، اللطيف الخبير، لا يُعفي ربَّ العمل من واجب العَدْل في الرَّعِية والإحسان إلى مَن تحتَ يده من بني الإنسان. شرَع الإسلام وجوب الرِفق في المعاملة، واللطف في التكليف في أقل العالمين شأناً، وأوضعهم عَملاً في نظر الناس، وهم العبيد والخدم. فهؤلاء قد أوصى النبي [ بهم فقال: «إخْوانُكم خَوَلُكم (خُدّامُكم) جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعِمه مما يأكل، ولْيُلْبِسه مما يلبِس، ولا تُكلِّفوهم ما يَغْلِبُهم، فإن كلَّفتموهم فأعينوهم» رواه البخاري.لقد أمَر من اتّخذ خُدّاماً بأن لا يستبدّ، ومن سخَّر عُمالاً بأن لا يَسْتَعبِد، وأوجب عليهم أن يَرفقوا بهم في ما يُكلِّفونهم من أعمال، وأن يتجاوزوا عن هَفَواتهم، ويصْفَحوا عن هَناتِهم، وأن لا يَعبثوا في تسخيرهم، فقد يسلبه الله ما مَلَك، ويُعدُّ له سوء الـمُنقَلَب، ناهيك بما يُحصي عليه كتاب السِّجِلِّ الأعْظم الذي {لا يُغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها}! عن أبي سعيد البَدريّ قال: كنتُ أضرب غُلاماً لي بالسَّوط، فسمعت صوتاً من خَلفي يقول: اِعلم أبا مسعود! فلم أفْهم الصوت من الغضب، فلما دنا مني إذا هو رسول الله [، فإذا هو يقول: «اعلَم أبا مسعود أن الله أقدَرُ عليك منك على هذا الغُلام، فقلتُ، يا رسول الله هُو حرٌّ لوجه الله! فقال: أما لو لم تفعل لَلَفَحتْك النار!» رواه مسلم. 
وأوجب الإسلام على صاحب العمل إيفاء الأجور بأمانة من غير تَهاوُنٍ ولا خِيانة. والأجرُ يجب تعجيله واستيفاؤه وعدمُ نُقصانه عن توفير المعايش الضرورية. إن تعجيل الأجرِ للعامل له أثرُه الطّيب في نفسه وانعكاسُه الموجب في حياته؛ أما تأخير الأجر أو الإبطاء في بَذْلِه فإنه يُحدِثُ مفاسد وأضراراً، ويوقدُ ضغائنَ ونيراناً! وقد أمر الرسول [ بتعجيل الأجور أمراً صريحاً في قوله: «أعْطُوا الأجيرَ أجرَه قبل أن يَجِفَّ عَرقه» رواه ابن ماجه. وأما حَجْبُ الأجور أو جَحدُها فإثمه عظيم، ووزرُه جسيم، ومَن فعل ذلك فقد أذِن بخُصومة ربِّ العالمين، ويكفي أن نتدبَّر في هذا الأمر الحديثَ القُدسِيّ الذي يقول فيه النبي [ عن ربه: «ثلاثةٌ أنا خصمهم يوم القيامة، ومَن كنت خَصْمَه خَصَمْتُه: رجلٌ أعطى بي ثم غَدَر، ورجلٌ باع حُراً فأكل ثمنه، ورجلٌ استأجر أجيراً فاستَوفى مِنه ولم يُعطِه أجرَه» رواه البخاري.
إن العامل مهما هانَت حِرفته، ودانَت رُتبته، يحقُّ له من الأجر ما يفي بحاجاته، فإذا وجب توفير ذلك للخدم والعبيد فمَن فوقهم يسْتحِقُّون مثلَهم أو يزيد! سأل الخليفة عمر رضي الله عنه حاطِب بْنَ أبي بَلتَعة كم يُعطي عُمّاله الذين سرقوا ناقةً لرجٍل من مُزَينَة؟ فقال: أربعة دراهم! قال أراك تُجيعهم! أعطِهم ثمانية، وأمر بعدم قطع أيديهم! وقال لحاطِب: لو سرقوا ثانية مِن جوعٍ لقطعتُ يَدك أنت!
إن يد الله مَلأى لا تَغِيض، سحّاءُ الليلَ والنهارَ، وكنوزُ نِعَم الله تَعمُّ بالخير وتَفيض، وما يحجبُها عن يد البائس ويزْويها عن كيس الفقير إلا غُرَماؤه المياسير الذين يأكلون مِلءَ البطون، وينامون ملء الجُفون، فلا يُحِسّون بآلام السائلين، ولا يلتفتون إلى الشَّكْوى ولا يسمعون الأنين! لو أننا حمَلنا مصباح الفيلسوف اليوناني «دوجين» نَبحث في ساعات الإبكار والدَّياجير عن مُنصِف العامل وراحِم الفقير، لأجهَدَنا البحث وأشقانا المسير!