أواب إبراهيم

رغم أن المعلومات التي قدمها البرنامج الاستقصائي الذي عرضته قناة الجزيرة قبل أيام حول أحداث عبرا لم يضف الكثير على ما يعرفه اللبنانيون، إلا أن أهميته تكمن في أنه جمع الأدلة والقرائن التي تشير إلى ضلوع طرف ثالث في إشعال فتيل الاشتباكات بين الجيش اللبناني ومناصري الشيخ أحمد الأسير، وقدّم هذه الأدلة في سياق منطقي ومتسلسل أعطى المشاهد صورة أكثر وضوحاً، وقدّم لمن يعنيهم الأمر خيوطاً حسيّة واضحة، تمكنهم–إذا أرادوا- من متابعتها والوصول إلى نهايات لها.
الجانب الذي لا يقل أهمية عما سبق هو أن برنامج «ماخفي أعظم» أعاد إلى الواجهة المَظْلمة التي يعاني منها عشرات الشبان ومن خلفهم عوائلهم الذين يتعرضون للملاحقة والاعتقال والتضييق منذ قرابة أربع سنوات، في ظل رفض الأجهزة الأمنية والقضائية نقاش أي فرضيّة أو احتمال يشير إلى أن ما حصل في منطقة عبرا عصر ذلك اليوم، هو فخ نجح المتضرّرون من اتساع ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في إيقاعه به والتخلص منه. فالمحكمة العسكرية ترفض كل الطلبات التي قدمها محامو الدفاع عن الموقوفين في ملف عبرا، يطلبون التحقيق في الكثير من الأدلة والقرائن التي تؤكد أن مسرح المعركة في عبرا لم يكن فقط بين الجيش اللبناني ومناصري الأسير، بل كان هناك عشرات المسلحين الذين شاركوا في هذه الاشتباكات على مرأى ومسمع من الجيش اللبناني ووسائل الإعلام وأهالي المنطقة. وهي أهملت عشرات الوثائق والأدلة والتسجيلات الصوتية والمصوّرة وإفادات أهالي منطقة عبرا التي تعزّز هذه الفرضية. وحين بات الأمر محرجاً للمحكمة، اكتفت بإحالة إخبار وكلاء الدفاع إلى مخابرات الجيش للتحقيق في مضمونه، الأمر الذي مرّت عليه أشهر دون الوصول لأي نتيجة. وكانت الفضيحة المدويّة حين أقرّ أحد المتهمين المنتمين إلى سرايا المقاومة، التابعة لحزب الله، خلال استجوابه في أحد الملفات أمام المحكمة العسكرية بأنه تلقى ورفاقه أوامر من حزب الله بالانتشار المسلح في عبرا والمشاركة في المعركة. وقُدّر أن يتواجد خلال هذا الإقرار أحد وكلاء الدفاع عن موقوفي عبرا، فأدرك أهمية ما قاله المتهم، وذكّر رئيس المحكمة بضرورة تدوينه في المحضر، لأنه يشكل إقراراً رسمياً بمشاركة طرف ثالث في معركة عبرا. لكن عِوض أن تكون ردة فعل رئيس المحكمة الحرص على تدوين ما قاله المتهم، إلا أنه غضب وانتفض ونَهَر المحامي ورفض تدوين الإفادة، رغم أنها يمكن أن تغيّر مسار التحقيقات، وتفتح آفاقاً جديدة تساهم في جلاء حقيقة ما حصل. هذا الأداء من المحكمة العسكرية (الاستثنائية) وغيره الكثير من الأمثلة، يعزّز شعوراً متنامياً لدى اللبنانيين بأن المحكمة تحابي طرفاً بعينه، وتتشدد في أحكامها في مواجهة أطراف أخرى.
أعود فأقول، ما قدمته قناة الجزيرة في تحقيقها يعرفه الجميع، وهم لم يكونوا بانتظار كلام الشيخ ماهر حمود ليتأكدوا من مشاركة حزب الله في المعارك، نظراً للإزعاج الذي تسبب به الشيخ الأسير لحزب الله، ولم يكونوا بانتظار إقرار من قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز بتعذيب عناصر من الجيش اللبناني عدداً من المعتقلين الذين أوقفوا على هامش المعركة، فهذه الممارسات وثقتها العديد من التسجيلات المصورة. واللبنانيون لم يتفاجأوا بالضحكة الصفراء والنظرات الشاردة التي خيّمت على وجه وزير الداخلية مروان شربل حين تمّت مواجهته بالأدلة التي تثبت مشاركة حزب الله بالمعارك، كل ذلك أكد ما كان مؤكداً بالنسبة إلى اللبنانيين ولم يكن جديداً. لكن الجديد هو أن برنامج الجزيرة شكل مناسبة لتذكير اللبنانيين بسياسة الاستهبال والاستغباء التي تمارسها الأجهزة الأمنية والقضائية بحقهم على مرأى ومسمع ومساندة من الطبقة السياسية، ويعزّز شعور الغبن والظلم وسياسة الكيْل بمكيالين لدى شريحة من اللبنانيين. وما يعزّز هذا الشعور كذلك هو سياسة دفن الرأس في الرمال التي انتهجتها السلطة اللبنانية تجاه ما كشفه برنامج الجزيرة، وإهمال شهادات مسؤولين كانوا في موقع السلطة عند اندلاع المعارك.