بقلم: أواب إبراهي

للمرة الأولى في تاريخ لبنان ما بعد الطائف، تعلو الأصوات بهذا الشكل والحدّة باتهام السلطة بتزوير نتائج الانتخابات النيابية. فلبنان يعرف تركيب المحادل، وبناء تحالفات انتخابية هجينة، وتبادل أصوات بين المتخاصمين، لكن التزوير لم يكن وارداً في قاموس الحياة السياسية. حتى الوصاية السورية التي كانت تتحكم بمفاصل البلد، لم تلجأ لتزوير الانتخابات رغم قدرتها على ذلك، وكلنا يذكر أن شخصيات سياسية كثيرة مناوئة لهذه الوصاية نجحت في الانتخابات رغماً عن الوصاية وبخلاف رغبتها.
من المفهوم أن يتذرع بعض الخاسرين بحصول تزوير في الانتخابات لتبرير خسارتهم، لكن المعطيات التي قدمها بعض هؤلاء كشفت أن الأمر يتجاوز التبرير إلى وقائع محددة تتجاوز المنطق، خاصة أن الأمر نفسه تكرر لدى أكثر من مرشح وفي أكثر من دائرة انتخابية، يجمعهم أنهم لا ينتمون إلى فريق السلطة التي تخوض الانتخابات. فهل يعقل مثلاً أن لا ينال المرشح في القلم الذي يقترع فيه أيّ صوت. فلنفترض أن زوجته وأبناءه وأهله وعائلته وعشيرته والأقربين منه كانوا يضحكون عليه ولم يصوّتوا لصالحه، ولكن أين ذهب صوته الذي صوّت به لنفسه؟! هل من المنطق تأكيد مختار منطقة رأس بيروت أنه وعائلته انتخبوا مرشحاً بعينه، وأنه كان حاضراً في عملية فرز الأصوات، ونال المرشح الذي صوّت لصالحه 41 صوتاً، لتصدر النتائج الرسمية عن وزارة الداخلية مانحة المرشح صفر صوت؟! وماذا عن المستندات التي كشف عنها اللواء أشرف ريفي والتي تُظهر الاختلاف بين الأرقام التي تضمنتها المحاضر الرسمية لأقلام الاقتراع، وما صدر عن وزارة الداخلية من نتائج، وماذا عن النسبة العالية من الأصوات الملغاة في دوائر انتخابية محددة، وماذا عن شهادات كثيرة تحدثت عن تشدد غريب ومريب من بعض رؤساء الأقلام في التعامل مع مندوبين للوائح انتخابية بعينها، وصلت حدّ طردهم من أقلام الاقتراع خلال فرز النتائج لاعتراضهم على إلغاء بعض الأصوات.
كل هذه الأدلة والقرائن رغم وضوحها، ليس من المتوقع أن تؤدي لتعديل بنتائج الانتخابات، خاصة أن أي تعديل سيطعن بنزاهة الانتخابات، وهو أمر لن تسمح به السلطة. كما أنه سيزيد من التراجع والضعف الذي أصاب الكتل النيابية لبعض من في السلطة، وهو أمر لن يُسمح به. كما أن الذريعة الجاهزة لتبرير اختفاء الأصوات التي يشتكي أصحابها هو أنها ملغاة لأسباب لن تعجز السلطة عن ابتكارها، هذا عدا عن أن الطعن بالنتيجة لن يكون متماسكاً بالنسبة إلى المرشحين الذين لم تؤمّن ماكيناتهم الانتخابية مندوبين ثابتين في كل أقلام الاقتراع، ولم يحضروا جميع مراحل الفرز، وتوقيعهم غير مثبت على المحاضر الرسمية لنتائج الفرز. لذلك، سيكون من الصعب إثبات حصول التزوير بسلوك الطرق القانونية، طالما أن السلطة المشرفة على العملية الانتخابية هي المتهمة بارتكابه. في المقابل يمكن بسهولة إثبات التزوير بطرق أخرى، أهمها استغلال من في السلطة لمواقعهم ونفوذهم، واستغلال مقدرات الدولة في حملاتهم الانتخابية، وهو أمر أكثر سوءاً من تزوير الأصوات.
ألا يعدّ استغلالاً للسلطة أن يطل رئيس الجمهورية قبل وقت قصير من إقفال صناديق الاقتراع ليحرّض اللبنانيين على التصويت بعد علمه بانخفاض نسبة التصويت في الدوائر الانتخابية التي يخوض فيها تياره الانتخابات؟!. ألا يعدّ استغلالاً وأكثر سوءاً من التزوير أن يجول صهر فخامة الرئيس الكرة الأرضية على حساب خزينة الدولة قبيل موعد الانتخابات بأسابيع ليحشد الناخبين المغتربين ويدعوهم للاقتراع لمرشحي حزبه؟ ألا يكون تزويراً سياسياً حين يسخّر وزير الداخلية كل مقدرات وزارته لخدمة جولاته الانتخابية ويستخدم إنجازات الوزارة في رصيده الانتخابي؟ أليس تزويراً لإرادة الناخبين حين يكون لأحد الأحزاب عشرات الآلاف من المقاتلين والمحازبين الذين يتقاضون رواتب ومخصصات شهرية من المال النظيف الآتي من خلف الحدود، فتصبّ أصوات هؤلاء في مصلحة الحزب الذي يتقاضون مخصصاتهم منه؟!
القانون النسبي الذي جرت على أساسه الانتخابات شكل نقلة نوعية في مسار تصحيح تمثيل القوى السياسية، لكن أداء من في السلطة واستغلالهم لمواقعهم ونفوذهم أساء إلى هذه النقلة، وجعل البعض يترحّمون على أيام الوصاية السورية.