أواب إبراهيم

هل تساءلنا يوماً لماذا رفض المستعمر البريطاني والفرنسي منح الأكراد وطناً مستقلاً لهم، رغم حرصه على تفتيت المنطقة وتقسيمها؟ في المقابل، هل تساءلنا لماذا أصرّ المستعمر على اجتراح دولة أطلق عليها اسم «دولة لبنان الكبير» تفتقد أدنى مقومات الدولة من حيث المساحة الجغرافية والزراعة والثروات والتجانس السكاني. ألم يكن منطقياً وطبيعياً لو تم منح الأكراد دولة خاصة بهم على أجزاء من تركيا وسوريا والعراق وإيران، ولو أن المساحة التي يشغلها لبنان كانت جزءاً من سوريا؟. ما دفع المستعمر البريطاني والفرنسي في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 على الحؤول دون امتلاك الأكراد دولة مستقلة بهم، وما دفعهم لاختراع «دولة لبنان» تكون في خاصرة سوريا هو حرصه على إبقاء عوامل الخلاف والتفجير داخل المنطقة، فيكون له ساعة يشاء إيقاظ الفتن النائمة وإشعال الخلافات في النسيج الاجتماعي غير المتجانس لتنفيذ ما يريد، وعرقلة ما يريد. 
كل العالم يعارض الاستفتاء الذي شهده إقليم كردستان العراق على الانفصال عن العراق باستثناء «إسرائيل»، وهو أمر اعتبره البعض سبباً كافياً للدلالة على خطورة الاستفتاء ووجوب مواجهته وضرورة التمسك بالحدود الجغرافية للدول، وتغافل هذا البعض عن أن هذه الحدود التي يتمسك بها ويستعد لشن حروب حفاظاً عليها إنما رسمتها أنامل الدبلوماسي الفرنسي فرانسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس لتقاسم النفوذ في المنطقة بعد انهيار السلطنة العثمانية. من حق كل دولة أن تحرص على حدودها وأن تسعى لتقوية نفوذها، لكن هذا الحق لا ينفي حق الآخرين بالسعي إلى الاستقلال. فالحدود القائمة ليست أمراً مقدساً، وليس ما يمنع إعادة النظر في هذه الحدود، ومحاولة رفع الضيم عن المظلومين والسعي لبناء دول قوية متجانسة، ولو أدى ذلك للانتقاص من دول أخرى.
ما المشكلة إذا كان للأكراد دولتهم المستقلة، ليس في كردستان العراق فقط، بل أن تكون لهم دولة تمتد من إيران إلى العراق فتركيا فسوريا. لماذا الإصرار على إبقاء الأكراد في موقع المضطهد المظلوم، الذي يضطر للتحالف مع «إسرائيل» ضمن حلف الأقليات، ويعادي العرب في سبيل رفع الظلم عن نفسه. من الطبيعي أن يؤدي استقلال كردستان إلى مزيد من التفتيت والتقسيم في المنطقة، لكن بديل ذلك هو مزيد من الخلافات والتهتك والضعف، وفي النهاية لا بدّ من الاستجابة لما يريده ملايين الأكراد الذين يطالبون بحقهم الطبيعي بأن تكون لهم دولة مستقلة. ولنا بتجربة السودان وجنوبه عبرة، فعلى مدى عقود تفاقمت مشكلة مطالبة الجنوب بالانفصال، وشكل الانفصال ذريعة للتدخلات الدولية في السودان والاعتداء على سيادته، وحاولت الدولة في المقابل تقديم رشى هي عبارة عن تنازلات للحؤول دون انفصال الجنوب، لكن في النهاية، حصل الانفصال، وها هو جنوب السودان يأكل بعضه نتيجة الخلافات في ما بين أبنائه.
الوحدة والاتحاد خطوة إيجابية تساهم ببناء كيانات قوية وصلبة، لكنها خطوة تكون بناء على طلب الشعوب، ولا تكون مفروضة عليهم. فالاتحاد الأوروبي نشأ بعدما شعرت شعوب أوروبا بأنها لن تستطيع مواجهة سطوة الولايات المتحدة إلا بوحدتها، فكان تشكيل الاتحاد. وحين شعر البريطانيون بأن مصلحتهم بالخروج من الاتحاد أجروا استفتاء وكان لهم ذلك. صحيح أن هذا الخروج أضعف الاتحاد، لكن البديل هو الإبقاء على كيانات سياسية هشة، لا تضامن ولا تعاون في ما بين أبنائها. الأمر نفسه نشهده اليوم في إسبانيا، حيث يسعى إقليم كتالونيا للانفصال عن الدولة الأم. سيؤدي ذلك حتماً لإضعاف إسبانيا، لكن الأساس هو ما تريده الشعوب وليس بالضرورة أن يكون في ذلك مصلحة الدولة. فإذا كانت هذه الشعوب واعية، فإنها ستدرك أن مصلحتها بالوحدة، وسيكون لها ذلك. لكن إرغام الشعوب على ما لا تريد سيجعلها تصرّ على مطالبها، مما يعقد المشكلة، وهو ما حصل مع الأكراد.
فليجرّب الأكراد دولتهم المستقلة، ولينعموا بثقافتهم وتاريخهم ولغتهم وتراثهم، فهذا حق لهم وليس لأحد سلبهم إياه. ولو نال الأكراد هذه الحقوق في ظل الدول التي يعيشون فيها لما ترسخت في عقولهم فكرة الانفصال والاستقلال.>