أواب إبراهيم

منذ استقلال لبنان عام 1943 وحتى بدء الحرب الأهلية عام 1975، كان الموارنة في لبنان يحظون بامتيازات يتقدمون بها عن بقية اللبنانيين. مع بدء الحرب الأهلية تراجع هذا التفوق، خاصة بعد دخول العنصر الفلسطيني على الخط ومساندته للقوى الوطنية والإسلامية، مما أحدث نوعاً من التعادل. ولعلّ هذا هو السبب الذي دفع اليمين المسيحي إلى افتعال الحرب الأهلية، في محاولة للمحافظة على مكتسباته. انتهاء الحرب باتفاق الطائف وبدء عهد الوصاية السورية لم يغيّر من واقع التعادل السلبي بين اللبنانيين، فرغم الحديث الذي كان سائداً آنذاك عن إحباط وتهميش مسيحي، إلا أن الإحباط شمل كل اللبنانيين من مختلف الطوائف. فالوصاية السورية كانت مبدعة في تركيب الطرابيش بين الجميع، لا حرصاً منها على العدالة، بل تحقيقاً لمصالحها ومصالح القابع في عنجر أو في فندق البوريفاج ببيروت. 
التحالف الإيراني السوري كان لا بدّ أن يجد انعكاساً على الوضع في لبنان. فحظي حزب الله برعاية خاصة من النظام السوري، لكن هذه الرعاية لم تكن تعني منح الحزب مكتسبات في الدولة، بل كانت تقتصر على حماية ظهره في عمله المقاوم في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي كان يحتل الجنوب اللبناني. 
شكّل اغتيال الرئيس رفيق الحريري محطة مفصلية في مسار التوازن بين الطوائف، فالأشهر التي أعقبت الاغتيال، والانتصار الذي حققه سعد الحريري في الانتخابات النيابية، منح المسلمين السنّة أشهراً من التميّز والتقدم عن بقية الطوائف. وقد شكلت الطائفة السنّية رأس حربة وقاعدة أساسية لما أطلق عليه اسم «قوى 14 آذار» لتتقدم الصفوف وتتصدّر الشاشات. لكن سرعان ما عاد التوازن إلى الصورة بعد العرقلة التي فرضها حزب الله وحلفاؤه بالاستقالة من الحكومة والاعتصام وسط بيروت، وصولاً إلى 7 أيار 2008 التي شكلت نكسة للطائفة السنّية من خلال استهداف واجهتهم السياسية (تيار المستقبل).
أنهى اتفاق الدوحة الأزمة بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة يملك فيها حزب الله وحلفاؤه ثلثاً معطلاً، وتم إجراء انتخابات نيابية. عاش المسلمون بعدها أسوأ مراحلهم، خاصة أن من يعنيهم الأمر غادروا لبنان وانصرفوا لممارسة هواياتهم بركوب الدراجات الهوائية أو التزلج على الجليد، تاركين قواعدهم في لبنان يعانون اليتم ويفتقدون الظهر الذي يحميهم ويسندهم. 
ملامح عهد جديد لاحت في الأفق. عرّاب هذا العهد كان الرئيس سعد الحريري، الذي قدّم للمسيحيين واللبنانيين العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، فقدمه الأخير بعد مراجعة حلفائه في محور الممانعة رئيساً للوزراء. تفاءل الجميع خيراً، علّها تكون خاتمة الإحباطات والنكسات، خاصة أن حزب الله الذي كان يخشى الجميع من تغوّله على الدولة والإمساك بمفاصلها لم يعد الأمر وارداً بالنسبة إليه، ليس تعففاً منه، ولا زهداً بمكتسبات الدولة، بل لأنه أوجد دويلة خاصة به، تتضمن دورة اقتصادية ووسائل إعلام وجيشاً قوياً، ولعبته لم تعد تقتصر على لبنان، فيمّم وجهه للعب أدوار تبدأ من سوريا والعراق واليمن والسعودية والبحرين ونيجيريا.. عسى أن تجد نهايتها في أميركا اللاتينية.
مقولة الإحباط المسيحي انتهت بوصول ميشال عون إلى سدة الرئاسة، ليبرز إحباط آخر ساهمت به وعزّزته التنازلات المتوالية لرئيس الوزراء. فتحت راية الحرص على تسيير عجلة الدولة وإصرار الأطراف الأخرى على التمسك بمطالبها وحصصها، يتم تقديم التنازل تلو التنازل. سرعان ما شعرت شريحة من اللبنانيين بأن لبنان الذي حفظوا نشيده الوطني وهم صغار ورفعوا علمه في عيد الاستقلال ليس لهم. يشعرون بغربة فيه، وهم متّهمون حتى تثبت براءتهم، ممنوع على المحجبة دخول القضاء والسلك العسكري، ممنوع عليها السباحة في المسابح الشعبية في مناطق لا يرغب سكانها برؤية محجبات. المناطق الإسلامية المحافظة داعشيّة إلى أن تثبت العكس.
برفع الأيدي استغرق لحظات أقرّ مجلس النواب ضمن بنود سلسلة الرتب والرواتب إلغاء التعطيل يوم الجمعة وتثبيت العطلة يومي السبت والأحد. المعترضون كثر، والمحتقنون أكثر، لكن لا أحد يحفل بهم. مفتي الجمهورية يستوعب غضب الغاضبين فيستقبلهم ويربّت على أكتافهم واعداً بمعالجة الأمر. لكن كيف تكون المعالجة وقد تلقى اتصالاً سمع فيه من المتصل كلمتين: «روّق على وضعك».