أواب إبراهيم

مشكلات كثيرة تعصف بأبناء عالمنا العربي والإسلامي. إحدى هذه المشاكل هي التباين والتفاوت الكبيرين في تقييم الأمور والنظرة إليها. فما يعتبره البعض انتصاراً يعتبره آخرون هزيمة، وما يقيّمه البعض على أنه إيجابي يقيّمه البعض الآخر بشكل سلبي، ومن يجد في شيء مصلحة ما، يجد فيه آخرون مفسدة، وهكذا.. مشكلة أزلية تكشف الأيام أنها لن تجد حلاً في المستقبل القريب، بل إنها تزداد استفحالاً وتعقيداً، هي مشكلة رغم بساطتها من حيث الشكل، إلا أن لها انعكاسات خطيرة، وتؤدي لنتائج سلبية كثيرة، تساهم في تشويه الصورة، بعد أن يختار خصوم الأمة الصورة السلبية التي تناسبهم، خاصة أن البعض يصرّ على عدم التفكير بمآلات الأمور وما يمكن أن تؤدي إليه، ويكتفي بالنتائج المباشرة. ليس هذا فحسب، بل إنه يوجّه سهام النقد والتشهير والتشكيك والتجريح باتجاه كل من يملك وجهة نظر تختلف عن وجهة نظره.
مناسبة هذه المقدمة، هي اغتيال السفير الروسي أندريه كارلوف في أنقرة قبل أيام، التي شكلت مناسبة جديدة كشفت حجم التباعد والتناقض في نظر أبناء الأمتين العربية والإسلامية للأمور، وقدمت نموذجاً جديداً لحالة الانفلات الفكري التي يعانون منها، وفضحت إخفاق شريحة من العرب والمسلمين في تقييم الأمور، وفشلهم في التفريق بين المصلحة والمفسدة.
ففي حين شكل اغتيال السفير الروسي في أنقرة والصور المروّعة التي تناقلها العالم للحادث مناسبة للبعض كي يحتفلوا بالنصر المؤزر الذي تحقق، على اعتبار أن قتل السفير يشكل انتقاماً لآلاف الضحايا الذين سقطوا جراء الغارات الجوية التي نفذتها الطائرات الروسية على مناطق فوق سوريا، وأن الله استجاب دعاء الثكالى والأرامل والأطفال بالانتقام من آلة القتل الروسية من خلال قتل سفيرها في أنقرة.. وما زاد في حدة الاحتفالات أنها أعقبت الضربة الموجعة التي تلقتها المعارضة بانسحابها من حلب، وخضوعها لشروط النظام وحلفائه، وبالتالي كان طبيعياً –بالنسبة للبعض- أن يشكل اغتيال السفير الروسي في أنقرة مناسبة للاحتفال والاحتفاء، لاسيما أن الشخص الذي قتل السفير أعلن بلغته التركية أن ما قام به هو انتقام لأبناء حلب، وقال بشكل واضح: «نحن نموت في حلب وأنت تموت هنا». هي النتيجة المنطقية والمباشرة للحادث، وقد تبنّى كثيرون هذه النظرة القاصرة بإشادتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ببطولة مطلق النار على السفير الروسي ومنحوه أرقى ألقاب البطولة والشجاعة والجهاد والشهادة بعد مصرعه. لكن نظرة من زاوية أخرى تكشف أن اغتيال السفير الروسي كان ضربة موجعة للثورة السورية، وأن آثاره على الثورة وأبنائها سوف تكون سلبية، وإذا أردنا التزام سياسة الانتقام التي فرح بها البعض، فإن بإمكان الطائرات الروسية الانتقام لمقتل سفيرها بارتكاب المزيد من جرائم القتل والتدمير والتشريد بحق السوريين، والكفّة لن تكون لصالحهم بالتأكيد.
الثورة السورية ليست بحاجة لمن ينتقم لها، وأبناء حلب الذين قُتلوا وشُرّدوا لا تكون مساندتهم ودعمهم بقتل وتشريد غيرهم، هم يريدون من يقف إلى جانبهم ويساهم في إنهاء معاناتهم وتثبيتهم في أرضهم، يريدون من يؤمّن لهم سقفاً يعيشون تحته يقيهم برد الشتاء، لا لمن يقتل باسمهم. فقتل السفير الروسي في أنقرة لن يعيد إحياء شهيد، ولن يخفّف من ألم جريح، ولن يرحم معتقلاً من سياط جلاّديه، ولن يعيد بناء منزل مهدم. انعكاسه الوحيد هو إطالة أمد معاناة السوريين، واستمرار سياسة القتل والتشريد والتدمير التي ينتهجها النظام وأعوانه، الذين سيجدون في مقتل السفير الروسي مبرراً للمزيد من الإيغال بدماء السوريين وارتكاب المزيد من الجرائم بحقهم. 
الثورة السورية متضرّرة كذلك من تأثير مقتل السفير الروسي على العلاقات التركية الروسية، التي عادت الحرارة إليها بعدما نجحت في تجاوز قطوع إسقاط تركيا للطائرة الروسية نهاية العام الماضي. فتركيا هي بوابة الثورة إلى الخارج، وما يضرّ تركيا سينعكس حكماً على قدرتها في تقديم الدعم والمساندة للثورة السورية. 
لا تنتصر الثورة بالانتقام، بل بالعقل والحكمة، والسعي لتأمين مصلحتها ومصلحة أبنائها.