أواب إبراهيم

تدور أحداث مسرحيّة «فيلم أميركي طويل» لزياد الرحباني في مستشفى المجانين خلال سنوات الحرب الأهلية. تخبرنا فصول المسرحية عن الأسباب التي أدت بقاطني المستشفى للوصول إلى الجنون بعدما كانوا أناساً طبيعيين. يحكي أحدهم أنه كان يعمل محللاً سياسياً وكاتباً في إحدى أهم الصحف، وتبعاً لذلك فقد كان طبيعياً أن يلجأ إليه جيرانه وأقرباؤه لسؤاله عما ستؤول إليه الأوضاع. فكان صاحبنا يأخذ نَفساً عميقاً، ويرشف من فنجان القهوة الذي أمامه، ثم يسرد على سائليه بثقة رؤيته للمرحلة القادمة، ويدعم هذه الرؤية بالأدلة والقرائن واستشراف المستقبل الذي يُتقنه. المشكلة التي واجهت صاحبنا أنه كلما قال لسائليه إن الأوضاع ستهدأ وأن الأمور ستكون بخير، تندلع الحرب والاشتباكات، وحين يكون متشائماً فيحذر من يسأله من وقوع حرب مدمرة تأخذ في طريقها الأخضر واليابس كانت الأوضاع تعود للهدوء وتستقر الأحوال. استمر بصاحبنا على هذه الحال فترة من الزمن، فكل ما كان يتوقعه يحصل نقيضه، مما أفضى به في نهاية الأمر ليكون في مستشفى المجانين.
الحال نفسه ينطبق على اللبنانيين اليوم. فقبل أسبوعين كان اللبنانيون ومعهم جميع المحللين السياسيين والباحثين ينظّرون في مقابلاتهم ولقاءاتهم الإعلامية على الشتاء الدافئ الذي يعيشه لبنان في ظل التسوية التي تمت قبل عام، وأن عجلة الدولة تسير على السكة الصحيحة، وأن لبنان أخيراً نجح بالخروج من لعبة المحاور الإقليمية، وأن التوافق والتناغم القائم بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء سيساهم بإيجاد الحلول للكثير من المشاكل التي استعصى حلها خلال عقود، وأن ما تم إنجازه خلال العام الأول من العهد الجديد هو جزء يسير من الإنجازات التي سيتم تحقيقها في السنوات الخمس الأخرى. كل المؤشرات والقرائن كانت تقود إلى هذه الخلاصة. وقد تصدّر رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري المشهد في أكثر من مناسبة لتأكيد التضامن الحكومي والإصرار على متابعة الطريق مهما كانت العقبات. بل إنه في جلسة مجلس النواب لإقرار الموازنة، ردّ على أحد نواب كتلته الذي أشار في كلمته إلى «إحباط سنّي»، فنفى الأمر وأكد أن الأمور على خير ما يرام. 
اليوم، وبعد انقلاب سعد الحريري (الرياض) على سعد الحريري (بيروت)، يعيش المحللون السياسيون والخبراء والباحثون صدمة شبيهة بالصدمة التي أصيب بها صاحبنا في مسرحية زياد الرحباني. مشكلة هؤلاء لا تتعلق فقط بأن كل توقعاتهم وتحليلاتهم وتنظيراتهم التي وزعوها على وسائل الإعلام طوال عام ثبت خطؤها بل وحصل نقيضها، بل تكمن كذلك في أنهم لا يدركون ما تحمله قادمات الأيام، وبالتالي هم سيقفون عاجزين أمام أي سؤال يتعلق برؤيتهم حول ما ستؤول إليه الأمور في المستقبل. 
فاستقالة الحريري كانت خارج التوقعات، وبالتالي من المحتمل أن تكون مجريات المرحلة المقبلة كذلك خارج التوقعات. ويُخشى من أن استمرار المحللين السياسيين في تقديم رؤى خاطئة ومخالفة للواقع أن يكون مصيرهم كمصير صاحبنا في مستشفى المجانين.
فكل التوقعات مطروحة هذه الأيام، المجنون منها قبل العاقل. فالعالم يعيش مرحلة من الجنون السياسي كانت أولى مؤشراتها وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وصول آخرين في أماكن أقرب. هل يقولون مثلاً إن المملكة العربية السعودية التي دفعت رئيس الحكومة للاستقالة ستكون خطوتها التالية شنّ حرب عسكرية على لبنان لمحاصرة حزب الله؟ ولكن، هل بقدرة المملكة تحمل خوض حرب ثانية بالتوازي مع حربها في اليمن، خصوصاً أن أوضاعها الداخلية غير مستقرة؟ هل يقولون إن المملكة قد تلجأ مثلاً لتشجيع العدوّ الإسرائيلي على خوض هذه الحرب بالنيابة عنها؟ وهل «إسرائيل» مطواعة لهذه الدرجة لتنفيذ ما تريده المملكة؟! هل يقولون إن استقالة الحريري هدفها مقايضة الملف اللبناني بملفات أخرى مع إيران...
لا بدّ أن تكون لديهم أجوبة، ولا بدّ أن يقولوا شيئاً يملأون به هواء شاشات التلفزة. الموقف محرج، والأحداث متسارعة، وعليهم أن يتصرفوا بسرعة، وإلا فإن مصيرهم أن يكونوا ممثلين في مسرحية جديدة عنوانها «فيلم سعودي قصير».