أواب إبراهيم

خلال لقائه معهم قبل أيام، دعا رئيس الوزراء سعد الحريري أعضاء كتلته النيابية إلى الحديث بلغة واحدة دون «شطحات». للحظات ظنّ نواب كتلة المستقبل أن الشيخ سعد يمازحهم، وربما تكون خطوته التالية أخذ صورة «سلفي» معهم. لكن ملامح الحريري كانت حادة، فأدرك الجميع أن الأمر ليس مزحة. حينها عدّلوا جلساتهم، وتصنّعوا الاهتمام بما يقوله زعيمهم وهم لايدرون ما يفعلون. أحدهم خرجت منه ضحكة مكتومة لم ينجح في إخفائها، آخر فتح فمه تاركاً الهواء يسبح بين أسنانه استغراباً ودهشة، ثالث استنجد بقصاصة ورق وجدها أمامه فتظاهر بالكتابة، رابع أطرق متأملاً بالزخرفات الموزعة في سقف القاعة وهو يفكر بالملامح التي ينبغي أن يظهر عليها، أما البقية، فتظاهروا بالفهم والاهتمام وهزّوا رؤوسهم مؤيدين موافقين.
بعد انتهاء الاجتماع خرج النواب من القاعة فرادى وجماعات ثنائية وثلاثية. بعضهم تأبّط ذراع زميل له وبدأ الهمس بأذنه، وآخر أمسك بيده اليمنى يد زميل واليسرى يد زميل آخر لتشكيل اجتماع ثلاثي طارئ. لقد فهموا ما قاله زعيمهم، لكنهم لم يفهموا عن أي لغة واحدة يتحدث. هل يتحدثون بلغة سعد الحريري نسخة الرياض، أم سعد الحريري النسخة المنقحة التي تحدث بها في باريس وبعد عودته إلى في بيروت.. أم أن المطلوب العودة إلى لغة سعد الحريري ما قبل الرياض؟!
أزمة حقيقية يعيشها نواب تيار المستقبل وكوادره وإعلاميوه ومؤيدوه، فهم لا يدرون ما يفعلون، ولا يدرون كيف يُرضون زعيمهم، ولا يدرون أي موجة يركبون، فهم طوال أكثر من عام كانوا ينظّرون للتسوية التي أدت لانتخاب رئيس الجمهورية ووصول سعد الحريري إلى السراي الحكومي وتشكيل حكومة حققت إنجازات مميزة بعد سنوات من التعطيل. وكانوا يواجهون بصدورهم كل اتهام بالإحباط أو انتقاد بالتفريط بالمكاسب والخضوع لشروط الطرف الآخر، بترداد رواية لم تكن مقنعة لكنها كانت موحّدة، هي أن سعد الحريري تنازل وضحّى في سبيل عودة الأمن والاستقرار وتسيير عجلة الدولة.
لكن الشيخ سعد غافلهم على حين غرّة وذهب إلى الرياض، ليخرج من هناك بلغة جديدة لم يألفوها ولم يستعدوا للتنظير لها والدفاع عنها. فبعدما كان حزب الله مكوّناً أساسياً من مكونات الشعب اللبناني ويستحيل تجاوزه أو تشكيل حكومة من دونه، صار فجأة يداً إيرانية يجب أن تقطع، وتحوّل إلى ميليشيا توجه سلاحها إلى صدور اللبنانيين والسوريين واليمنيين. وبعدما كانت الأوضاع في أحسن حال من الأمن والاستقرار، باتت الأوضاع في ليلة ظلماء شبيهة بتلك التي سبقت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وصار سعد فجأة مهدداً بحياته، ولم ينس في الحريري الإشارة إلى حال الإحباط التي تخيم على اللبنانيين. لم تكد تمرّ ساعة على بيان الاستقالة من الرياض، حتى خرج علينا نواب وقيادات وإعلاميو تيار المستقبل على شاشات التلفزة للترويج والتصفيق والتهليل للغة الجديدة التي أطلقها الحريري من الرياض، وللتنظير بأن الأمور في أسوأ أحوالها، وأن سلاح حزب الله يجب أن يجد حلاً، وبدأ التحذير من عودة شبح الاغتيالات السياسية. لم يكن الترويج للغة الجديدة صعباً، فهو خطاب شعبوي سرعان ما وجد من يصفق له، وهو منح تيار المستقبل فرصة لاسترجاع بعض الشارع الذي خسره في الفترة السابقة. 
عشرة أيام فاضت خلالها وسائل الإعلام بالتحليلات حول الأسباب الموجبة والضرورية التي دفعت برئيس الحكومة لتقديم استقالته. لكن الحريري لم يمهل من حوله كثيراً، فعاد إلى بيروت بعد تسوية لا أحد يعرف تفاصيلها، ليتراجع عن استقالته وليقدم من بيروت لغة جديدة ما زال سقفها غير محدد، ليقع نواب وكوادر وإعلاميو تيار المستقبل في مأزق جديد. فهم لا يستطيعون الاستمرار بترداد لغة الرياض التصعيدية، ولا هم قادرون على استرجاع اللغة التي سبقت الرياض، ولا هم قادرون على استنباط اللغة التي يريد سعد الحريري أن يتحدث بها في المرحلة الجديدة. على سعد الحريري أن يرأف بمن حوله ويحميهم، وأن يرسو على لغة واضحة وثابتة، كي يتسنّى لتياره أن يروّج وينظّر للغة الجديدة.